إيقاع العقوبة على الشخصية المعنوية (الاعتبارية)
مسألة رقم 246
1. مساءلة الشخص المعنوي.
2. المسؤولية الجنائية للشخصية المعنوية.
3. المسؤولية الجنائية للشخصية الاعتبارية.
عرّف مصطفى الزرقاء الشخصية المعنوية: “أنها شخص يتكون من اجتماع أشخاص أو أموال يقدر له التشريع كيانا قانونيا منتزعا منها مستقلا عنها”([1]).
وفكرة الشخصية المعنوية بناء على هذا التعريف تتناول حالتين:
الأولى: جماعات الأشخاص؛ وذلك بالاتفاق على توحيد نشاطهم في أمر من الأمور لتحقيق أهداف مشتركة.
الثانية: مجموع الأموال؛ وذلك بتخصيص رؤوس الأموال لتحقيق نفع خاص أو رعاية مصلحة عامة.
وفكرة الشخصية الاعتبارية بهذا المفهوم ليست غريبة في فحواها نظرا إلى ارتباطها بالذمة المالية التي عرفها المسلمون في نظام الدولة الإسلامية وبيت المال والوقف…
فنظام الدولة ثبت لها حقوق شرعية؛ كحق النصرة والطاعة للإمام الذي يمثلها، وحماية خزانة الدولة ومواردها المالية، والتصرف فيها على وفق المصلحة، وحراسة الدين بإقامة دعائمه وتثبيت أركانه، وسياسة شؤون الدنيا على وفق مقتضيات المصالح الكلية والمقاصد المرعية.
وكذلك بيت مال المسلمين يعتبر شخصية مستقلة عن شخصيات ممثليه باعتبار أنه يرث بالعصوبة، وينفق على اللقطاء والمجهولين، ويتحمل جنايات من لا عاقلة له، ويرعى المصالح العامة؛ كبناء المدارس وحفر الآبار… ونحوها.
وبناء على المفهوم السابق للشخصية الاعتبارية هل يجوز تنزيل العقوبة عليها إذا صدرت منها جرائم توجب العقوبة كما لو حصل الاعتداء على الأشخاص، أو صدر منها التدليس بتقليد المصنوعات أو المضاربة في مجالات غير مشروعة مع تعذر تحديد الجناة في أغلب الأحيان نتيجة صدور الفعل الإجرامي إلى مجلس إدارة أو لجنة..؟
([1]) المدخل إلى نظرية التزام العامة في الفقه الإسلامي ص: 283 ، 284.
أولا: المسؤولية المدنية للشخصية الاعتبارية
لا خلاف بين الفقهاء – رحمهم الله تعالى – أن الشخص الاعتباري يحاسب مدنيا، بمعنى: أن الإتلاف الحاصل بسبب أفعاله موجبٌ للتعويض؛ وذلك أن الشرع قد حمّلت الشخصية المعنوية المسؤولية المدنية في جملة من صور الجنايات الواقعة منها، ومن أبرزها:
- ما جاء أن بيت مال المسلمين يتحمل دية من جهل قاتله من المسلمين فيما رواه سهل ابن أبي حثمة: “أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطلقوا إلى النبي – ﷺ – فقالوا: يا رسول الله: انطلقنا إلى خيبر، فوجدنا أحدنا قتيلا، فقال: (الكبر الكبر) فقال لهم: (تأتون بالبينة على من قتله) قالوا: ما لنا بينة، قال: (فيحلفون) قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة) [أخرجه البخاري برقم: (6898) 9/9، ومسلم برقم: (1669) 3/1291].
- ما ثبت أن بيت مال المسلمين يعقل عن مسلم لا وارث له في جناية الخطأ باعتبار أنه يرثه، فعن المقداد بن معد يكرب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – ﷺ -: (من ترك كلاً فإلي، وربما قال إلى الله ورسوله، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه، وأرثه، والخال وارث من وارث له يعقل عنه ويرثه) [أخرجه ابن ماجه برقم: (2738) 2/914، وأصله في الصحيحين أخرجه البخاري برقم: (2397) 3/118، ومسلم برقم: (868) 2/592].
- ما ورد أن بيت المال يتحمل الجناية الحاصلة بسبب من الإمام أو نائبه فيما يعود للنفع العام، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: بعث النبي – ﷺ – خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي -r – فذكرناه، فرفع النبي – ﷺ – يده فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين) [أخرجه البخاري برقم: (4339) 5/160] .
وجه الدلالة: أن النبي- ﷺ – يمثل الدولة – وهي شخصية معنوية – وخالد يمثلها في قيادة الجيش، وقد ترتب على أفعاله اعتداءٌ أوجب ضررا، فوداهم النبي- ﷺ – من بيت مال المسلمين؛ وذلك يدل على مشروعية محاسبة الشخص المعنوي مدنيا، ولزوم الضمان بإتلافه.
وسبب الاتفاق في هذه الصورة: أن الضمان يتعلق بالإتلاف، ولا يؤثر فيه القصد مطلقا؛ لذلك وجب الضمان في الجنايات الواقعة على سبيل الخطأ، كجناية النائم، ووجب كذلك بإتلاف الصغير والمجنون مع انتفاء التكليف.
ثانيا: المسؤولية الجنائية للشخصية الاعتبارية
- لا خلاف بين الفقهاء أن خطاب الشارع يتناول الشخصية الاعتبارية كتناوله للشخصية الطبيعية؛ وذلك لأن الشخص الاعتباري يمثله أشخاص طبيعيون في مجلس إدارتها أو الموظفين فيها، وهم واقعون في حيز التكليف..
- لا خلاف بين الفقهاء أن الجرائم التي يرتكبها الشخص الطبيعي لشخصية اعتبارية عمدا عدوانا، ولا علاقة لها بأعمال الشخص الاعتباري يتحمل مسؤوليتها الجنائية الجاني وحده؛ وذلك كما لو أطلق حارس الأمن لشركة ما النار على من جاء يطالبه بدينه أثناء عمله في الحراسة، فإن الشركة غير مسؤولة جنائيا عن تصرف الحارس.
- لا إشكال أن الشخص الاعتباري يحق له محاسبة الأشخاص الطبيعيين التابعين له إذا خالفوا شروط العقد والتزاماته انطلاقا من المسؤولية الإدارية المستمدة من حديث: (والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته) [أخرجه البخاري برقم: (893) 2/5].
- اختلف المعاصرون في إمكان مساءلة الشخص الاعتباري جنائيا إذا ارتكب جريمة لصالح الشخص المعنوي – بعد اتفاقهم على محاسبة الأشخاص الطبيعيين سواء كانوا أعضاء مجلس الإدارة أو أحد العاملين في الشركة – على تجاهين:
الاتجاه الأول: يحاسب الشخص الاعتباري عن الجرائم التي ارتُكبت لصالحه إلى جانب محاسبة الشخص الطبيعي الذي ارتكب الجريمة، وهذا ما ذهب إليه أكثر الباحثين.
واستدلوا على ذلك بأدلة، من أبرزها:
- أن المسؤولية الجنائية تقوم على وجود القصد، والشخصية الاعتبارية يمكنها ممارسة الكثير من جرائم الغصب والخيانة والتزوير والتهرب الضريبي… بواسطة أفرادها الطبيعيين، وفي معاقبتها جنائيا ما يحفظ المصالح الكلية.
- القياس على جناية العبد الموقوف، فإنها توجب القصاص، وهذا لا يخلو: أن يكون قتلاً يبطل به الوقف، أو قطعا يبقى به بقيته، وفي هذا تحمل الشخصية الاعتبارية للمسؤولية الجنائية.
- قياس تحملها للمسؤولية الجنائية على تحمل المسؤولية المدنية، والجامع: اشتراك المسؤوليتين في لزوم الضمان، فيحاسب الشخص الاعتباري جنائيا كما يحاسب مدنيا.
الاتجاه الثاني: لا يحاسب الشخص الاعتباري جنائيا عن الجرائم المرتكبة لصالحه من ممثليه أثناء تأديتهم للمهام الوظيفية، وهذا ما قرّره بعض الباحثين، وأشار له بعض المتقدمين فيما ذكروه في المنع من الاستدانة على الأوقاف باعتبار أن الدين لا يجب إلا في الذمة، والوقت لا ذمة له بحيث يتقبل الديون، ويقوم في الزمن اللاحق بالوفاء اللازم.
واستدلوا على ذلك:
- أن الشخصية الاعتبارية ليست أهلا لفهم خطاب الشارع باعتبارها مجرد افتراض اقتضته ضرورة التملك والتعاقد، وهذا الافتراض أمكن اعتباره في المسؤولية المدنية لتعلقها بالمال، فلا يمتد ذلك إلى المسؤولية الجنائية لتعلقه ببدن الجاني.
- أن القصد في الجناية شرط في استحقاق العقوبة، والشخصية المعنوية فاقدة للإرادة فلا تكون محلا للعقوبة، والحكم إنما يترتب على سببه على تقدير وجود المقتضي وانتفاء المانع.
أن القواعد المقررة في العقوبات أن العقوبة شخصية،(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) وإيقاع العقوبة على الشخص الاعتباري يفضي إلى إلحاق الضرر بغير المرتكبين للجريمة باعتبار براءتهم كمساهمين من ارتكاب الجرائم المنسوبة إلى الشخص المعنوي.
- أن كثيرا من العقوبات لا يمكن تطبيقها على الشخص المعنوي كعقوبة الإعدام والعقوبات السالبة للحرية من الحبس والضرب والجلد…ومن ثم إذا فات محل العقوبة تعذر إيقاعها على الشخص المعنوي.
- أن الزجر يعد مقصدا عاما من مقاصد العقوبات، والشخصية الاعتبارية لا يتصور في حقها هذا المعنى، فتكون معاقبتها على هذا التقدير عديمة الفائدة، ومن ثم لا تحاسب جنائيا.
وسبب الخلاف فيما يظهر: أن كون الشخصية المعنوية مجرد افتراض هل يصلح مانعا من إيقاع العقوبة الجنائية عليها نظرا إلى ضرورة استلزامها لأهلية التكليف والقصد المعتبر والمحل القابل… أم أن هذا القصد الصادر من ممثليه يعتبر صحيحا بالنظر إلى كونهم مكلفين؛ فيترتب عليه آثاره، وما يمكن تطبيقه عليها من العقوبات الشرعية..
المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري – دراسة مقارنة – للدكتور محمد نصر القطري، مجلة العلوم الإنسانية والإدارية لجامعة المجمعة، العدد الخامس شعبان 1435 ه الموافق: يوليو 2014 م.
1. المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – دراسة مقارنة – خالد الدك، مجلة الفقه والقانون، العدد: 18، إبريل 2014 م.
2. المسؤولية الجنائية للشخصية المعنوية العامة – دراسة مقارنة، فهد بن عبد العزيز بن محمد آل مهنا، بحث تكميلي مقدم لنيل درجة الماجستير بقسم السياسة الشرعية، المعهد العالي للقضاء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
3. مسؤولية الشخصية الاعتبارية – دراسة فقهية، للدكتورة أمل بنت إبراهيم الدباسي، مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة، عام: 1434 ه الموافق: 2013 م.
4. نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي لمصطفى الزرقاء.
5. نوازل جريمة القدف وتطبيقاتها القضائية، عبد الله بن إبراهيم المزروع، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير بقسم الفقه المقارن، المعهد العالي للقضاء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام: 1429هـ.