قسم العباداتباب الصلاة

حكم المحراب الإلكتروني

مسألة رقم 30

صورة المسألة

المحراب الإلكتروني هو محراب مصنوع من الخشب الفاخر، يتوسطه شاشة إلكترونية مستطيلة، أبعادها كأبعاد صفحة الكتاب بعد تكبيرها، يمكن عند تشغيلها استعراض القرآن الكريم، والوقوف عند أي صفحة لتظهر مقروءة بشكل واضح ومريح من قبل المصلي، الذي يقف في المحراب على بعد حوالي مترين من الشاشة، وكلما انتهى المصلي من قراءة الصفحة التي أمامه يضغط بإصبع السبابة اليمنى على مقبس في أسورة بلاستيكية يضعها في معصم يده اليسرى فتختفي الصفحة التي انتهى من قراءتها؛ لتظهر الصفحة التي تليها، ويستطيع المصلي أن يحدد الجزء أو السورة التي يريد أن يبدأ بها صلاته ويتابع التلاوة بشكل متسلسل إلى أن ينتهي من صلاته دون قلق حول صحة وتسلسل القراءة، مما يساعده على الاستغراق في صلاته بطمأنينة وخشوع، كما أن المحراب مزود بذاكرة إلكترونية، تسمح للمصلي أن يواصل صلاته فيما بعد من حيث انتهى في المرة السابقة إذا رغب بذلك، والطراز الأول من (المحراب الإلكتروني) هو من النوع الكبير الذي يتوقع أن يشيع استعماله في الجوامع والمساجد العامة والخاصة، وفي بعض القصور والبيوت الكبيرة والمنازل التي قد يرغب أربابها في تخصيص ركن منها للصلاة، ويجهز هذا الركن بـ: (المحراب الإلكتروني) ؟

حكم المسألة

بحثت اللجنة الدائمة هذه النازلة بتوسع: بنت الفتوى على مقدمات ونتائج([1]):

أ‌- المقدمات:

الأصل الشرعي في العبادات بناؤها على الاتباع وقفو الأثر، واليسر والسهولة والاقتصاد في التعبد، والبعد عن التكلف والتشدد والتعمق والإيغال في التطبيق، وإنها توقيفية على النص ومورده فلا يعبد الله إلا بما شرع، ومنها أداء المسلم للصلوات على الهيئة المشروعة التي توارثها المسلمون ومضت عليها سنتهم العملية وفيها قراءة القرآن العظيم والركن منها قراءة الفاتحة في كل ركعة، وهذه السورة الكريمة يتوارث المسلمون حفظها حتى الأميين منهم، ومن عجز عنها انتقل إلى الذكر إذ لا واجب مع عجز.

ووظيفة المسلم في هذه الصلوات المفروضات وغير المفروضات الانشغال بصلاتـــه، وحضور قلبـــه، واستكانتــه وسكــون جوارحه، وقنــوتــه بين يدي ربــــه (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، وجمع فكره للخشوع وتدبر ما يقول، ولهذا أجمع المسلمون على تحريم الكلام في الصلاة، وأجمعوا على أن العمل المتواصل بدون ضرورة يبطلها، وقد وردت النصوص بالنهي عن التكلف، ولهذا نهى العلماء عن التعمق في القراءة وفي مخارج الحروف والقلقلة والإمالة والإدغام ونحوها؛ لما فيه من انصراف الجهد وتحوله إلى معاناة، والانشغال عن مقاصد الصلاة وحضور القلب لها.

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال: (إن في الصلاة شغلًا) [البخاري (1216) ومسلم (538)]، وقوله ﷺ شغلًا تنكير للتعظيم، أي شغلًا عظيمًا؛ لأن الصلاة مناجاة لله تعالى، تستدعي انصراف العبد بكليته إلى ربه فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره، ففي الصلاة شغل مانع عن الكلام وغيره مما يمنع في الصلاة، وكان دأب السلف رحمهم الله تعالى هكذا، ومنه عن مجاهد قال: (كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود) رواه البيهقي بسند صحيح.

 

ب‌- النتائج:

إذا علمت هذه المقدمات الشرعية فليعلم أن في القراءة في الصلاة بواسطة هذا الجهاز (المحراب الإلكتروني) عددًا من المحاذير الشرعية:

الدخول في الصلاة مع نية مسبقة بمزاولة عملية تشغيل الجهاز بمراحلها، وانصراف عن حق الصلاة بالعمل الكثير مغايرة للخشوع، وتفويت بعض السنن، وزيادة تكلف لم يأذن به الله ولا رسوله ﷺ ، وتغيير في هيئة الصلاة الشرعية وبيانها بالتفصيل كالآتي: فالعمل الكثير من جهات عدة: إشغال اليد مرارًا بضغط (مقبس) الجهاز لتشغيله، وإخراج الفهرس ثم إخراج السورة أو الصفحة، ثم ضغطه لإخراج صفحة أخرى وللبحث عن السورة المراد قراءتها، واشتغال العين حال القيام بشخوص البصر وتصويب النظر نحو الشاشة وتحركها، والتأمل في السطور فيها، وإشغال الفكر بهذه الشاشة تشغيلًا ومشاهدة والتحكم فيها ومراقبة انتهاء الصفحة لضغط (المقبس) وما يصاحب ذلك من خوف ووقوف التيار وتعطل الجهاز، وهكذا من الاستغراق في التفكير والمراقبة لهذا الجهاز، فالإمام أو المصلي في شغل شاغل فيما ليس بشرط ولا ركن، ولا مأمور بتحصيله، بل يؤول في حال المصلي إلى لاه في صلاته عن صرف فكره وقلبه وجوارحه إلى تحصيل الخشوع ولذة المناجاة، وهذا بخس لحقوق الصلاة، وإذا كان علم الخميصة شغل النبي ﷺ في صلاته حتى استبدل الخميصة بغيرها، فكيف بحال غير النبي ﷺ وكيف بهذا الجهاز وشاشته التلفزيونية ومقبسه وسواره وآلاته ومتعلقاته؟

وقد ثبت عن النبي ﷺ النهي عن الاشتغال بما هو دون ذلك، مثل نهيه عن مسح المصلي لمحل سجوده، ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: في الرجل يسوي التراب حيث يسجد، قال: (إن كنت فاعلًا فواحدة) [البخاري (1207) ومسلم (546)]، وفيهما أيضًا نهيه ﷺ للمصلي عن كف الثياب والشعر في الصلاة، [البخاري (816) ومسلم (490)]، والانشغال بهذه انشغال طارئ بالجارحة، فكيف بهذا الجهاز الذي تعددت جهات الانشغال فيه حسًا ومعنى، وفي هذا الجهاز أيضًا تفويت لعدد من السنن الثابتة، فمنها تفويت نظر المصلي إلى محل سجوده، وتفويت سكون جوارحه، وتفويت حضور فكره وتفريغ قلبه، وفيه أيضًا تنطع وتكلف في الدين، ونصوص الشريعة ناهية عن ذلك، عن أنس بن مالك ؓ قال: (دخل النبي ﷺ فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ﷺ : لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) [البخاري (1150) ومسلم (784)]. فقوله ﷺ فليقعد أمر بترك ما عزم عليه من التنفل إذا فتر، فلا يجلب وسائل متكلفة، وهكذا يقال هنا: ليصل المسلم بما تيسر من القرآن كما أمره الله تعالى بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20]، وأيضًا فإن قاعدة العبادات المطردة التأكيد على ما درج عليه المسلمون في سلفهم الصالح من السنن العملية، والنفور التام من الزيادة على المشروع، ومنها عدم الخروج عن هيئة الصلاة، التي توارثها المسلمون ومضت عليها سنتهم العملية مؤيدة بالأدلة الشرعية، والحيدة عن عملهم وعن سلوك جادتهم يؤدي إلى الوقوع في التعبد بما لم يشرع، ويضاف إلى هذه المحاذير محاذير أخرى منها انشغال عدد من المصلين خلف الإمام بهذه الشاشة المتحركة أمامهم، ومنها أنه يؤدي إلى الصد عن حفظ كتاب الله تعالى، وتثبيط الهمم عن هذه المنقبة العظيمة لأمة محمد ﷺ ، ومنها جعل الصلاة مجالًا لاختراعات أصحاب المطامع الدنيوية والأفكار المادية، ومنها أنه يكون وسيلة لذوي الأغراض والغايات بشغل محاريب المسلمين بمن يؤدي الصلاة وظيفة مع تنحية من تتوافر فيه الأهلية، كالأفقه والأورع وهكذا، ومنها فتح باب العبث في هذا الركن الإسلامي العظيم، والشعيرة الظاهرة المنتشرة ولله الحمد في أمصار المسلمين وبلدانهم، ومدعاة إلى تحويلها إلى تصرفات أخر، ومحدثات وتذويب آثارها العظيمة على نفوس المسلمين باستصلاحها، وتعلقها بالله ونهيها لفاعلها عن ارتكاب الآثام والانحرافات، ولا يجوز أن يحتج لإجازة هذا المحراب بجواز القراءة من المصحف؛ لما بينهما من الفروق الكثيرة، لهذا فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تفتي بالمنع شرعًا لهذا الجهاز ومنع استعماله في الصلاة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم”.


([1]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/184-190)، الفتوى رقم (16275).

المراجع

1. شرح عمدة الفقه، عبد الله الجبرين (1/344).
2. ضوابط توظيف تقنية المعلومات في خدمة الفقه، هشام بن عبدالملك آل الشيخ، ص(28-35).
3. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
4. فقه القضايا المعاصرة في العبادات، عبدالله أبوزيد، ص (472).

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى