قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب الجنايات

جريمة التنويم المغناطيسي

مسألة رقم 46

صورة المسألة

التنويم المغناطيسي هو أحد مباحث علم النفس، وعرف بأنه: عملية تطبيقية يكون من تأثيرها: التخفيف أو التوقيف مؤقتاً للخصائص الدماغية الواعية عند المنوم لأجل إخضاع العقل الباطن لتأثير كلام القائم بتنفيذ التنويم.
ومن صور جريمة التنويم المغناطيسي:
1ـ الإفادة من التنويم في ممارسة جريمة ضد المنوم، كما في حالات الاغتصاب من قبل الطبيب مثلاً للمرأة المنومة مغناطيسياً، أو في تحريض المنوم على القيام بجريمة ما؛ كالقتل أو السرقة، ونحوهما.
2ـ استخدام التنويم المغناطيسي في التحقيقات الجنائية للحصول على إقرارات من المتهم أو تفاصيل عن الجريمة من الشاهد على اعتبار أن التنويم المغناطيسي يحفز الذاكرة لاستعادة المواقف المنسية.
3ـ استخدام التنويم المغناطيسي للاطلاع على معلومات المنوم السرية، سواء أكانت معلومات شخصية للمريض لا تتعلق بالعمل الطبي، وبالتالي لا حق للطبيب في الاطلاع عليها، وقد تكون المعلومات المطلوبة أكثر حساسية؛ كالمعلومات التي تتعلق بمصالح الدولة مثلاً، أو برامجها، ومشاريعها السرية، أو خططها العسكرية، أو إجراءاتها الأمنية، أو أسرار الدفاع فيها، وذلك حين يكون المنوم شخصية بارزة ومهمة في الدولة ويمتلك العديد من أسرارها.

حكم المسألة

هذه المسألة لها جانبان:

الجانب الأول: توصيف عملية التنويم المغناطيسي

يمكن توصيف عملية التنويم المغناطيسي بالنظر إلى طريقة القيام بها كما يلي:

أولاً: أن يثبت بالإقرار أو غيره من الأدلة القطعية استعمال المنوم للجانّ أو ادعاؤه شيئاً مما خصه الله به نفسه من أمور الغيب مثلاً.

فالجريمة هنا توصف بأنها كهانة أو سحر ونحوهما، بحسب ما يصدر من المنوم من أعمال شركية.

ثانياً: أن يثبت فئة من العلماء المختصين إمكانية حصول التنويم المغناطيسي بغير وسائل محظورة، ومن غير مساعدة الجن، أولا يحصل الإثبات، فلا يمكن اعتبار العملية جريمة حينئذ؛ لما يترتب على اعتباره سحراً من العقوبة الشرعية التي يمتنع إيقاعها شرعاً بالظن المجرد؛ لأن براءة ذمة المنوم ثابتة، والأصل في نفسه العصمة؛ حتى يثبت يقيناً ما ينقل البراءة، ويزيل العصمة.

لكن إن ترتب على التنويم المغناطيسي ضرر متعمد، فالعلماء متفقون على اعتباره جريمة عمدية، يسأل عنها المختص الذي قام بها.

 

وبناء على اختلاف الأضرار التي يمكن ترتبها على عملية التنويم المغناطيسي يكون الاختلاف في توصيف جريمة المنوم، كما يلي:

أولاً: استخدام التنويم المغناطيسي للجناية على المنوم أو لدفعه لارتكاب جريمة يمكن تصنيفهما من الإكراه المعنوي.

وبيان ذلك: أن الإكراه لابدّ له من وسيلة يتمكن المكرِه عن طريقها من الوصول إلى هدفه غير المشروع، وللإكراه وسائل متعددة، منها: المادي الذي يصيب مباشرة بدن الإنسان المكرَه؛ كالقتل، والقطع، والضرب، والتعذيب بشتى أنواعه، والمنع من الحق؛ كمنع الإنسان من النوم أو الطعام، أو حرمانه من وظيفته، وعزله من منصب يستحقه، ومن منع الحق الذي عده بعض الفقهاء إكراها: أن يمنع الرجل زوجته من أهلها حتى تهب له المهر.

وقد تكون الوسيلة معنوية، وهي التي تؤثر في نفس المكرَه وشعوره، وتسبب له الألم النفسي، ولذا ذكر بعض أهل العلم أن من شروط الإكراه: كون المكره عليه متلفاً للنفس أو للعضو، أو موجباً للغم، وموجبات الغم ليست قاصرة على الأمور الحسية، بل تشمل الأمور المعنوية أيضاً؛ كخدش الشرف، والإهانة في حق ذي الجاه.

ويمكن اعتبار التنويم المغناطيسي في درجاته العميقة من أنواع الإكراه المعنوي الذي يتم فيه إزالة الإرادة من أصلها، وحصول الإلغاء التام لها، للتأثير النفسي القوي من المنوِّم على المنوَّم، مما يقضي ببطلان تصرف صاحبه.

ويمكن أن تخرّج مسألة التنويم المغناطيسي في اعتبارها من الإكراه المعنوي الذي يبطل حكم الفعل، ولا يترتب عليه مؤاخذة على مسألة ذكرها الحنابلة، وهي مسألة: من سُحر ليطلق هل ينفذ طلاقه؟، والجواب: لا؛ لكونه مكرَهاً، بل هو من أعظم الإكراهات، وسبب هذا التخريج: أن المنوِّم كالساحر في قدرته على السيطرة على عقل المنوَّم، والتحكم بإرادته، وقد ألحق بعض العلماء التنويم المغناطيسي بالسحر للتشابه في أثرهما، فإن لم يلغ التنويم إدراك المنوَّم وإرادته بالكامل، وبقي مع التنويم شيء منهما ففعله يوصف بكونه جريمة عمدية، وهو مسؤول عنها جنائياً، وإن كانت إرادته فاسدة بالإكراه؛ لبقاء أصل الإرادة والاختيار لديه، وإن عدم الرضا، وهو في هذا كمغسول المخ الذي بقي له شيء من الإرادة.

كما يمكن إلحاق النوم المغناطيسي باختلاف درجات مجالات غياب الإدراك الكامل أو اضطرابه المانعين من التكليف والمؤاخذة بحالة النوم الطبيعي والعته، وألحق بعض الفقهاء المطبوب – أي المسحور – بالمعتوه في عدم المؤاخذة ورفع التكاليف، وامتناع المؤاخذة عن هؤلاء دل عليه حديث: «رفع القلم عن ثلاثة». [رواه أحمد (940)، الترمذي (1443)، أبو داود (4388)، ابن ماجه (2025)]، وذكر منهم: «النائم حتى يفيق»، ولأن من شروط إيقاع العقوبة الشرعية وجود العقل، والنائم والمعتوه لا يعقلان فلم تجز مؤاخذتهما.

وهذا هو حكم التنويم المغناطيسي إذا كان النائم قد نام مرغماً، أو كان قبل أن ينام لا يفكر في ارتكاب الجريمة، أما إذا كان النائم يعلم أن المنوِّم يقصد من تنويمه أن يوحي إليه بارتكاب جريمة، أو يشجعه على ارتكابها، ثم قَبل أن ينام ففي هذه الحال يعتبر متعمداً ارتكاب الجريمة، وماكان التنويم إلا وسيلة من الوسائل التي تساعده على ارتكابها، فهو مسؤول عن فعله طبقاً لقواعد المسؤولية العامة.

ولأن من شروط المكرَه كونه ممتنعاً عن الفعل قبل الإكراه، ومن رغب في النوم المغناطيسي ليقترف الجريمة أو رضي بها قبله فليس بممتنع عن الفعل قبل الإكراه فيؤاخذ؛ تخريجاً لهذه المسألة على مسألة ما لو سكر الإنسان ليقتل أو ليزني، ولئلا يتخذ هذا النوع من العمليات وسيلة للخلاص من العقوبات، والفرار من التبعات، أو التخفيف منها، وسبيلاً للاعتداء على الناس، وإهدار حقوقهم.

ويعتبر المنوم الذي يمارس جنايته على المنوم في حكم الشريعة مباشراً للجناية، والذي يدفع لارتكاب المحظور آمراً بالجريمة محرضاً عليها.

كما يمكن وصف المنوِّم فقهياً في هاتين الصورتين: بكونه محارباً، واعتبار هذا النوع من الجرائم من أفعال الحرابة وإفساد الأرض.

 

ثانياً: استخدام التنويم المغناطيسي في التحقيقات الجنائية.

لا يشرع استخدام التنويم المغناطيسي في التحقيقات الجنائية؛ وذلك لما يلي:

1ـ أن هذه الوسيلة لم تحز الدرجة الكافية من الثقة العلمية التي تضمن الحصول على معلومات صحيحة، وبالتالي لا يمكن الاستناد إلى نتائجها في الإثبات، أو بناء حكم الإدانة عليها وحدها على اعتبار أنها تؤدي إلى قطع الروابط المنطقية في عملية التفكير، فبدلاً من الوصول للحقائق المطلوبة في مجال التحقيق تقابلنا أوهام وتصورات وتخبطات كثيرة تختلط بالحقائق، بحيث يصعب التمييز بينها.

2ـ أن هذه الوسيلة تلغي الإرادة الواعية لدى الشخص، ولا يحول دون ذلك رضاؤه بالتنويم، وتسلبه حرية التصرف التي تعتبر الضمان الأول لكل عمل صحيح، مما يترتب عليه: أنه يدلي ببعض الأقوال التي لو ترك فيها لحالته الطبيعية العادية لما ذكر شيئاً منها.

3ـ أن المتهم يكون خاضعاً لتأثير من ينومه، فتأتي إجاباته صدى لما يوحى إليه به؛ إذ يبقى العقل الباطن تحت سيطرة المنوِّم المعناطيسي.

4ـ أن فيها تعذيباً للإنسان نفسياً وجسدياً، وهو منهي عنه، ومتوعد عليه.

5ـ أن فيها تلاعباً بعقل الإنسان، وعبثاً بإرادته.

وبناء على كون هذه العملية تلغي الإرادة الواعية للمنوَّم، فتأتي إجاباته صدى لما يقوله المنوِّم، فيمكن توصيف هذه الجريمة فقهياً، بكونها جريمة إكراه على الإقرار بالنسبة للمتهم، وإكراه على الشهادة بالنسبة للشاهد، والإقرار المبني على الإكراه باطل لاسيما مع عدم توفر القرائن والبينات، وكذا الشهادة؛ إذ يشترط كون الشاهد مقدماً على الشهادة بكامل اختياره.

ولأنه من الممكن إلحاق النوم المغناطيسي بحالات غياب العقل أو نقصه واضطرابه في حكم ما يصدر من الأقوال والأفعال في تلك الحالة فيكون إقرار النائم نوماً مغناطيسياً كإقرار النائم نوماً طبيعياً، والمعتوه في عدم الأخذ به.

وكذا لا تقبل شهادة المنوَّم مغناطيسياً كما لا تقبل شهادة النائم نوماً طبيعياً والمعتوه؛ لاشتراط الإدراك الكامل، وتمام التيقظ والتحفظ والضبط وعدم الغفلة، حال تحمل الشهادة وأدائها، والمنوَّم مغناطيسياً لا يعقل تماماً ما يقول ولا يضبطه، ولديه من الأوهام والتخبطات ما يُسوِّغ رد شهادته؛ لأن الشهادة إخبار، والخبر لا يقبل إلا من الثقات، ومن لا عقل له لا يمكن الوثوق بكلامه، ولا قبول خبره، ولأن الإقرار المتفق على بطلانه ممن لا يعقل هو في الأصل شهادة من المرء على نفسه، فمن الأولى ألا تقبل شهادة المرء على غيره إن لم يكن أهلاً، ثم إن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولا يتحول عن هذا الأصل إلا بيقين، وشهادة النائم مشكوك فيها، فلم يصح تغيير الأحكام بناء عليها.

ووفقاً للشريعة الإسلامية فقد نصت الأنظمة الحديثة على عدم جواز استخدام التنويم المغناطيسي في مجال التحقيقات الجنائية، بحجة أنه يمثل اعتداء على الحرية الفردية، سواء أكان ذلك بموافقة المتهم أم بعدمها.

ويمكن تشبيه التنويم المغناطيسي في عمليات التحقيق الجنائي بالمخدر، ولذا يجب رفضه في مراحل التحقيق الجنائي كافة، سواء مع المتهم أو مع الشاهد، رضي بذلك أم لم يرض؛ إذ لا يعقل أن يتنازل الشخص عن ضمان يتعلق بحقوق الإنسان، فمبدأ هذا الضمان لا يخصه، بل يخص المجتمع، ولا يعد التنازل عنه سبباً لإباحة الاعتداء على هذا الحق؛ إذ ما ليس للإنسان بذله لا يمكن أن يباح بإباحته.

واستثنى مجمع الفقه الإسلامي من حظر استخدام هذه الطريقة وما في حكمها كبار المجرمين وأصحاب السوابق، ومع ذلك لا يعدو أن تكون هذه الأساليب قرائن لا بينات، جاء في الفتوى الصادرة عنه ما نصه: (إن الالتجاء عند التحقيق في جناية ما إلى إجراء عملية جراحية يترتب عنها فقد المتهم لكل قدرة على كتمان ما في نفسه، أو إلى التخدير، أو إلى استعمال التنويم المغناطيسي قد لا يمكن القبول به إلا عند التحقيق مع كبار المجرمين من ذوي السوابق التي لا ريب فيها، وإن كانت النتائج التي ينتهي إليها التحقيق بهذه الوسائل يتعذر ـ إلم يكن يستحيل ـ اعتبارها من البينات، بل لا تعدو أن تكون قرائن).

وكأنهم في ذلك يرون رأي من يقول من العلماء بجواز الإكراه على الإقرار إذا كان ظاهر المتهم الفسق، وقامت على جنايته القرينة.

 

ثالثاً: استخدام التنويم المغناطيسي للاطلاع على ما خفي من الأمور، وكشف الأسرار، فيمكن أن يوصف هذا العمل من الطبيب بأنه جريمة تجسس، وحكمه التحريم، وقد نهي عنه شرعاً، وعد من الكبائر، ولا يجوز التصنت على سرائر الناس ولو من باب الفضول، وقيل: إلا إذا وجدت أمارة صريحة دالة على محاولة الاستتار لأجل ارتكاب محظور؛ كمن خلا ليقتل أو يزني فيجوز التجسس حينئذ للمصلحة، وقيل: بل يجب؛ لأن مصلحة إنكار المنكر أرجح من مصلحة ترك التجسس ومفسدة ترك إنكار المنكر أشد من مفسدة التجسس، كما أن تحريم التجسس مقيد بعدم العلم بوقوع المنكر؛ لأنه لا يسمى تجسساً إلا إذا كان فاعله على بصيرة من أمره، وهذا علم بوقوع المنكر أو غلب على ظنه حصوله، فوجب الإنكار؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن رأى منكم منكراً فليغيره». [رواه مسلم (49)].

وبناء على القول بجواز التجسس الحسي على ما خفي من الأمور المحظورة إن علم أو غلب على الظن بالأمارة الدالة على وجود نية إيقاعها؛ لدفع المفسدة، فهل يمكن القول بجواز التجسس المعنوي على ما خفي من النوايا الإجرامية مع وجود الأمارة للعلة نفسها، وذلك بإجراء التنويم المغناطيسي لبعض من يغلب على الظن، وتقوم الأمارات على وجود نية إيقاع العمل المحظور كمن يخطط لعمل تخريبي مثلاً؛ لدفع مفسدة ذلك العمل عن المجتمع، ولضرورة حفظ أمن المسلمين؟

لعل التجسس على خبايا النفس مسألة أكثر دقة من المسألة التي نص عليها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ؛ لأن ما في النفس من نوايا ـ وإن كانت إجرامية ـ لا يمكن أن يؤاخذ بها الإنسان إلا إذا حصل الشروع في ارتكاب الجريمة، بالإضافة إلى أن ما يدلي به الإنسان أثناء التنويم المغناطيسي ليست معلومات يقينية، بل قد تكون خليطاً من الأوهام والرؤى المضطربة، بالإضافة إلى أن استعمال هذه العملية فيها من التعذيب النفسي والجسدي والحطّ من قيمة الإنسان بتغييب عقله، والعبث بحرية إرادته ما يجعل القيام بهذه العملية أثناء مساءلة المتهم من الانتهاكات المحظورة لحرمة الإنسان وكرامته.

 

ولذا فإنه إن قيل بالجواز في هذه المسألة أن يجعل لهذا القول بعض القيود، وهي كالتالي:

1ـ أن يكون هذا العمل بأمر من الحاكم، وليس للأفراد الاجتهاد في مثل هذه المسائل.

2ـ أن تكون الجريمة التي يخشى وقوعها متعدية الضرر، شديدة الخطر على المسلمين وأمنهم، كأن يكون الاتهام بجريمة التخطيط لعمل تخريبي، أو الانتماء لفئة محاربة مثلاً؛ مما يجعل مفاسدها تربو على المفاسد الموجودة في عملية التنويم المغناطيسي ليشرع حينئذ إجراؤها؛ عملاً بقاعدة: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)، وقاعدة: (يختار أهون الشرين، أو أخف الضررين)، وقاعدة: (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما).

3ـ أن تكون التهمة في حق الإنسان قوية، والقرينة في تورطه صريحة؛ إذ لا عبرة بالشك المجرد، وما لم تقم القرائن الدالة، فالأصل براءة ذمة المتهم مما نسب إليه.

4ـ أن يستأنس باعترافات المتهم كقرائن مجردة، والسعي للاستفادة منها في منع وقوع الجريمة، دون أن تعتبر بينات يدان بها المتهم.

ومما يستأنس به في هذا المحال: الفتوى الصادرة من مجمع الفقه الإسلامي، والتي سبق ذكرها.

والفرق بين هذه المسألة ومسألة استخدام التنويم المغناطيسي في التحقيق الجنائي وإن كان بينهما شيء من التقارب: أن هذه المسألة في التجسس على الجرائم التي يراد إيقاعها، أما استخدام التنويم المغناطيسي في التحقيقات الجنائية فهو لغرض استجواب المتهم في جريمة واقعة بغية التوصل إلى المحرم.

أما في غير ذلك فلا يجوز لأحد التجسس على عورات الناس، واستخراج عيوبهم، وذنوبهم، ومن فعل ذلك فهو آثم وجريمته جريمة عمدية، ومن جملتهم: الطبيب الذي يحاول التوصل لخفايا النفس عن طريق ما يعرف بعملية التنويم المغناطيسي بلا مبرر طبي أو شرعي، وتختلف درجة هذه الجريمة حسب ما سعى الطبيب للاطلاع عليه، وبحسب مقصوده من هذا الاطلاع.

 

الجانب الثاني: المسؤولية الجنائية المترتبة على جريمة التنويم المغناطيسي

يمكن بيان المسؤولية الجنائية المترتبة على جريمة التنويم المغناطيسي في ضوء النقاط الآتية:

أولاً: ثبوت استعانة المنوِّم بالشياطين، وتسليطه الجني على الإنسي أو ادعائه علم بعض المغيبات عن طريق عملية التنويم المغناطيسي جناية تستوجب المساءلة الجنائية والعقوبة الشرعية التي يستحقها الكاهن أو الساحر ونحوهما حسب نوع الجريمة الثابتة في حقه.

ثانياً: استخدام التنويم المغناطيسي للجناية على المنوَّم تجعل من المنوِّم مباشراً مستحقاً للعقوبة الشرعية فلو هتك عرض مريضة أثناء تنويمه فعليه عقوبة هتك العرض، ولو سرق المنوِّم من مال المنوَّم أو قتله أثناء نومه أو كان التنويم لأجل تنفيذ الجريمة فالواجب عليه حينئذ عقوبة السرقة أو القتل وفق الشروط المعتبرة شرعاً في الجنايتين، وهكذا.

أما استخدام التنويم في التحريض على الجرائم فهو كاستخدام عملية غسيل المخ كذلك، وبالتالي فالمسؤولية الجنائية المترتبة على الطبيب المختص في الحالتين واحدة، فإذا حصل بالعمليتين الإلغاء الكامل لإرادة المستهدف فلا مسؤولية جنائية، ولا تبعة جزائية عليه، وإن بقي له شيء من الإرادة أو الاختيار فيؤاخذ بمقدار ما بقي لديه من الإرادة للجريمة، ويرجع في تحديد ذلك لأهل الاختصاص، بعد أن يبين الطبيب المحرض درجة التنويم المغناطيسي التي أحدثها بالمنوَّم، والعقوبة تعزيرية حسب ما يراه القاضي.

ثالثاً: استخدام التنويم المغناطيسي في التحقيقات الجنائية لا يجوز شرعاً؛ لاعتبارها نوعاً من أنواع الإكراه على الإقرار أو الشهادة، وشكلاً من أشكال التعذيب النفسي، والأذى المعنوي الواقع على المتهم، فالعقوبة عليها عند ثبوتها تعزيرية يرجع فيها لتحديد القاضي.

رابعاً: استخدام التنويم المغناطيسي للتجسس على عورات المسلمين والاطلاع على أسرارهم الشخصية التي لا صله لها بالعمل الطبي، والعلم ببواطن أمورهم التي لا مصلحة شرعية ترجى من علم الطبيب بها؛ لمجرد التطفل والفضول على أحوال الناس، وقد لا تكون حالات التنويم المغناطيسي لغرض التجسس، لكن قد يحدث في بعضها شيء من ذلك، وهي موجبة للتعزير.

أما إن كان المقصود من الاطلاع على عورات المسلمين نقل أخبارهم وأسرارهم لعدوهم وإعلامه جوانب القوة والضعف فيهم، وهو الذي ينصرف إليه لفظ التجسس عند بعض الباحثين المعاصرين؛ حيث يقتصر تعريف التجسس عندهم على الوقائع التي من شأنها خدمة مصالح الدول الأجنبية ويقصرون المسؤولية الجنائية على هذا النوع من جرائم التجسس.

وهذا الفعل من أعظم الجرائم وأشنعها في الشريعة وفي الأنظمة المعاصرة على حد سواء، ومن المتصور أن يكون بعض الأطباء والمختصين نفسياً جاسوساً يخدم مصالح العدو، لاسيما إن كان ضمن مرتادي الصحة النفسية بعض كبار الشخصيات الذين يشغلون مناصب حساسة في الدولة، أو كان الطبيب النفسي طبيباً خاصاً لبعض من يملكون أسرار البلاد العسكرية أو الاقتصادية، ونحوهما مما يتشوف العدو لمعرفته، فيتم عن طريق الوعد أو الوعيد بإيعاز المختص النفسي بإجراء عملية التنويم المغناطيسي، واستدراج المنوَّم للحصول على بعض المعلومات السرية.

فإن كان المختص مسلماً فالفقهاء متفقون على أن الجاسوس المسلم يعاقب، وإن كانوا يختلفون في نوع عقوبته على ثلاثة أقوال:

-القتل.

-التعزير بما يراه الإمام موافقاً للمصلحة من ضرب وحبس ونحوهما.

-التفصيل بحسب التكرر منه ودوام ضرره، فيكون دائراً بين القتل والتعزير.

ودليل ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – حين كتب لأناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: دعني، يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ( إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ) [رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494) ].

فالذين قالوا: لا يقتل استدلوا بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقتل حاطباً وقد تجسس لصالح المشركين، والذين قالوا يقتل قالوا: لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً؛ لأنه من أهل بدر، فكل جاسوس لا يكون من أهل بدر يستحق القتل؛ لأن التعليل بالوصف الخاص – وهو شهود بدر – يقضي على التعليل بالوصف العام – وهو كونه مسلماً-.

وأما الجاسوس من غير المسلمين ذمياً كان أو معاهداً فالعلماء مختلفون في انتقاض عهده بالتجسس على ثلاثة أقوال:

-ينتقض عهد الذمي وأمان المستأمن، والإمام مخير في عقوبتهما.

-وقيل: لاينتقضان بالتجسس، ولكن يوجعان عقوبة.

-وقيل: يفصل: فإذا بعثه الكفار ليطلعهم على أمر المسلمين فإن عهده ينتقض، وإن طرأ عليه التجسس فلا.

ودليل انتقاض عهده إقرار النبي – صلى الله عليه وسلم – لسلمة بن الأكوع قتله للجاسوس المشرك [رواه مسلم (1754)] فدل ذلك على أنه لو كان له عهد لكان منتقضاً بالقتل، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وقد يرد عليه أن الفعل لا عموم له وإلاقرار فعل.

فإذا تقرر هذا فالتجسس من الطبيب النفسي المختص مسلماً كان أو غير مسلم عند ثبوته موجب لمسؤوليته الجنائية في الشريعة الإسلامية، ولولي الأمر حسب ما قررته الشريعة الإسلامية تغليظ عقوبته بعد النظر بعين الاعتبار في دناءة الطريقة التي استخدمها في الوصول لغايته، وهي استغلال شرف المهنة، والتخفي وراءها لتحقيق مآربه وأهدافه.

المراجع

• نوازل الجرائم الطبية (رسالة دكتوراه ـ كلية الشريعة ـ قسم الفقه)، د. أمل الدباسي (100) فما بعدها.
• التنويم المغناطيسي، عدنان جمعة (22).
• التنويم المغناطيسي، د. مصطفى غالب (41).
• الموسوعة الجنائية الإسلامية المقارنة، سعود الثبيتي (1/455).
• التنويم المغناطيسي، محجوب مزاوي (19).
• دليل مستخدمي التنويم (16).
• التنويم المغناطيسي، د. أمين رويحة (112).
• فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، رقم الفتوى (32)، (1/348).
• سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني (6/259).
• إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، صالح آل الشيخ (1/707).
• التشريع الجنائي في الإسلام، د. عبدالقادر عودة (2/ 149).
• موسوعة جرائم الخيانة والتجسس (دراسة في التشريع المصري والتشريعات العربية والتشريعات الأجنبية والشريعة، د. مجدي محمود حافظ (310).
• عقوبة التجسس في الشريعة الإسلامية، د. طارق الخويطر (40).

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى