قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب الجنايات

جريمة الاتجار بالوهم في الطب

مسألة رقم 45

العناوين المرادفة

الكذب على المريض من قبل الطبيب.
ابتزاز الأطباء للمرضى

صورة المسألة

الوهم عند المعاصرين يعرف بأنه: الحمل على قبول ما لا خير فيه بوسيلة كاذبة مضللة، تُرّغب فيه، بزعم أن فيه مصلحة، ولو عرفت حقيقته ما قُبل.
ومن صور هذه الجريمة في المجال الطبي:
1- أن المتطبب الجاهل أساس عمله قائم على التغرير بالمريض، وإيهامه بقدرته على ممارسته هذه المهنة، وغرضه من هذا: تحصيل المال والتكسب من مهنة التطبب المزورة.
2- أن يوهم الطبيب في العيادات الخاصة المريض بحاجته إلى تحاليل معينة أو لنوع معين من الأشعة، أو عدد مبالغ فيه من الجلسات، وربما يتعدى الأمر إلى إيهام المريض أو غيره بحاجته لعمل جراحة معينة مع علم الطبيب الكامل بأن مثل هذه الإجراءات لا يمكن أن تضيف للعمل الطبي أو للمريض شيئاً، وإنما المقصود منها: استنزاف الأموال، واستغلال حاجة المريض لتحقيق الربح المادي.
3- أن تتفق بعض المؤسسات المنتجة للدواء أو بعض الشركات الخاصة بالمنتجات التجميلية مع بعض الأطباء والصيادلة لتسويق منتج معين في مقابل نسبة مالية محددة يتقاضاها الطبيب أو الصيدلي عن كل عبوة مثلاً، فيعمد أحدهما مستغلاً سلطته المعنوية على المريض لإيهامه بحاجته للمنتج، أو كونه الأفضل، مع علمه بأن الحقيقة خلاف ذلك.
4- على اعتبار أن الرقية الشرعية نوع من أنواع المداوة، وهي من الطب الروحي للإنسان، فإن بعض من يتعاطى هذا الطب من القراء بأجرة قد يعمد إلى إيهام المريض بأنه مسحور أو معيون، وأنه قادر على أن يريه العائن، أو الساحر أثناء عملية القراءة، فيجعل المريض يتعلق به ويكثر التردد عليه، وقد يعمد بعض هؤلاء القراء إلى تركيب خلطات معينة، أو تنفيذ قراءات مركزة ومكررة على المياه، وغيرها لغرض بيعها للمرضى، وتكون بأثمان مضاعفة.
5- بعض من ينسب إلى ما يعرف في وقتنا الحاضر بالطب البديل قد يعمد إلى إيهام المريض بأمراض العصر؛ كأمراض القلب والسكر والضغط وغيرها، بقدرته على عمل خلطة له من الأعشاب الطبيعية يمكنها أن تغنيه عن العقار الذي أوجب عليه الأطباء تناوله وتقوم مقامه، مما يترتب عليه تلف نفس المريض أو بعض أعضائه.

حكم المسألة

جريمة الاتجار بالوهم في المجال الطبي جريمة تغرير في الفقه، ويظهر من تتبع شيء مما ذكره الفقهاء في الغرر والغرور أن منهم من قرنه بالخيانة، ومنهم من قرنه بالتدليس، ومنهم من قرنه بالخديعة، وعليه فجريمة الاتجار بالوهم إضافة إلى كونها من جرائم الغرر، فهي أيضاً يمكن أن توصف فقهياً بكونها من جرائم الخيانة أو التدليس أو الخداع أو الاحتيال.

ووصف الجريمة بأنها جريمة تغرير فقط فيما لو ترتب عليها الضرر المالي فحسب، فإن ترتب عليها مع الأذى المالي الضرر البدني كما لو مات المريض بسبب خلطة معينة من الأعشاب مثلاً فالجريمة توصف فقهياً بأنها قتل بالتسبب.

فإن كان الأذى دون الموت كمن أجريت له جراحة لا يحتاجها، فنتج عنها عاهة مستديمة كالعمى مثلاً، فهو من الجناية فيما دون النفس بالتسبب.

فإن أجرى الطبيب الجراحة التي لا حاجة لها، ولم يترتب على هذه الجراحة تلف في النفس، ولا في شيء من المنافع، فالجريمة توصف فقهياً بأنها جريمة جرح.

 

أما المسؤولية الجنائية المترتبة على جريمة الاتجار بالوهم:

فالطبيب الذي يعمد لخداع المريض والتغرير به آثم، ومسؤول عن فعله في الآخرة، وأما عن مسؤوليته في الدنيا فلا يخلو إما أن يكون الطبيب قد أشار بالدواء على المريض على وجه الإرشاد والنصيحة فقط، دون أن يكون بينه وبين المريض عقد مداواة، كما لو التقيا في مكان ما فسُئل عن دواء فأجاب فكان جوابه كاذباً، فإن لم ينتج عن نصحيته ضرر وتبين كذبه وأقر به أُدّب، وأما إن نتج عما أشار به من ضرر فقد اختلف الفقهاء في تضمينه على ثلاثة أقوال:

القول الأول: التضمين، وهو قول عند المالكية، وقول الحنابلة.

القول الثاني: عدم التضمين، وهو قول الحنفية، وقول عند المالكية، والقول المشهور عند الشافعية.

القول الثالث: التفصيل في نوع الغرور، فإن كان فعلياً ضمن، وإن كان قولياً فلا يضمن.

وهو القول المشهور عند المالكية.

أما إن استتبع التغرير عملاً كمن قدم للمريض خلطة الأعشاب الضارة، أو طالبه بالاستغناء بها عن العقار الطبي فتلف بسببه فتُخرّج هذه المسألة على مسألة ما لو ناوله طعاماً أو شراباً ساماً وطلب منه شربه.

أما إن جرى بين المريض والطبيب عقد معاوضة، فإن الضمان لازم باتفاق مع وجوب تعزير الطبيب وتأديبه على عملية التغرير.

 

والقول بتضمين الطبيب الغار للمريض في الدواء ونحوه مما يترتب عليه تلفه أو تلف شيء من أعضائه تخريجاً على مسألة تغرير المجني عليه بتقديم الطعام المسموم له يوجب في الأصل من العقوبة الشرعية في هذه المسألة ما وجب في المسألة المخرّج عليها، وهو القصاص، إلا أن القول بوجوب القصاص في مسألة تغرير الطبيب أمر قد يصعب لأمور، وهي:

1- أن تقديم الطعام المسموم أقوى في الدلالة على الرغبة في الجناية من مجرد وصف دواء أو الإشارة على المريض بإجراء جراحة معينة؛ لأن التقديم والدفع أقوى من الوصف والتغرير.

2- أن صورة العدوان المحض ظاهرة في تقديم الطعام المسموم، ولذا فهذا النوع من الصور لا يمكن أن يحتمل غير العدوان وقصد الجناية، والرغبة في إحداث الضرر، أما ما ذكر هنا فمع اعتباره جريمة إلا أنه أخف من صورة تقديم الطعام المسموم من حيث الرغبة في إحداث الضرر، بل الدافع الأكبر فيها في تحصيل المال، بل ربما علل بعضهم بأنه إنما قصد النفع أو رجاء ذلك.

3- اختلاف النتيجة الضارة الحاصلة بأكل الطعام المسموم عن هذه المسألة.

4- التفاوت في الاختيار بين المسألتين.

5- أن تغرير الطبيب هو في الأصل قولي كوصف دواء أو الإشارة بجراحة، وقد يستتبع هذا النوع من التغرير الفعل؛ كإجراء الجراحة، وصنع مركّب دوائي أو خلطة من الأعشاب ونحوها، وبالتالي فلا يمكن إطلاق القول بتخريج مسألة التغرير على مسألة تقديم الطعام المسموم التي لا تشتمل إلا على صورة الفعل.

فإن غرر الطبيب وأجرى الجراحة ونتج عنها التلف في النفس أو الأعضاء أو مجرد الجرح، فالقول بالقصاص مع وجود المباشرة من الطبيب أمر يصعب كذلك؛ لوجود الإذن من المريض بالجراحة، بالإضافة إلى أن على المداوي تحمل جزء من الجناية لتقصيره الحاصل باعتماده على قول طبيب واحد، وعدم تحريه عن مدى حاجته، وانتفاعه من هذا الإجراء الطبي بعرض نفسه على أكثر من طبيب لاسيما إذا كانت المنشأة الصحية خاصة.

 

وبناء على ذلك فإن تغرير الطبيب للمريض بكافة صوره يستوجب العقوبة التعزيرية على اعتبار أن جريمته تدخل ضمن جرائم الغش والاحتيال والخداع، ولولي الأمر تغليظ العقوبة عليه كلما ازدادت شناعتها، وذلك لما يلي:

1- بالنظر إلى نوع التغرير الحاصل من الطبيب أو المتطبب، وهل استتبع التغرير عملاً أو هو مجرد نصيحة منه ودلالة؟

2- بالنظر إلى ما ترتب على التغرير من الضرر، فما يترتب على مجرد أكل الأموال بالباطل من الضرر ليس كالذي يترتب على أكل الأموال مع إيذاء الأنفس.

3- بالنظر إلى الجاني فقد يرى الإمام معاقبة المتطبب الجاهل بعقوبة أشد من الطبيب الحاذق لشدة ضرره على المجتمع، وقد يرى معاقبة الحاذق بالعقوبة الأشد؛ لكونه لم يسخر علمه وحذقه لنفع الناس، بل خان من قصدوه رغبة في كفاءته، وثقة بخبرته، واستغل مركزه لغش الناس وخديعتهم وأكل أموالهم بالباطل.

المراجع

• نوازل الجرائم الطبية (رسالة دكتوراه ـ كلية الشريعة ـ قسم الفقه)، د. أمل الدباسي (509) فما بعدها.
• التداوي والمسؤولية الطبية، قيس آل شيخ مبارك(215).
• تضمين الطبيب في ضوء الشريعة الإسلامية، د. خالد بن علي المشيقح.

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى