قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب الجنايات

المسؤولية الجنائية لمهندس البناء

مسألة رقم 117

صورة المسألة

المسؤولية الجنائية هي: (تحمل الإنسان نتائج الأفعال المحرمة التي يأتيها مختاراً، وهو مدرك لمعانيها ونتائجها).
وبناء على ذلك تكون مسؤولية مهندس البناء جنائية، إذا تضمن الفعل الصادر منه ثلاثة أسس:
أولاً: أن يرتكب مهندس البناء فعلاً محرماً.
ثانياً: أن يكون مهندس البناء مختاراً.
ثالثاً: أن يكون مهندس البناء مدركاً لنتائج فعله.
فالمسؤولية الجنائية يُعد القصد – أي النية – ركناً من أركانها لا تقوم إلا به، وذلك بأن يتعمد الجاني إتيان الفعل المحرم مع قصده لما ينتج عنه؛ وذلك لأن أعمال المكلف وتصرفاته قوليةً أو فعليةً تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود الشخص وغايته وهدفه من وراء تلك الأعمال والتصرفات، فإذا وُجدت هذه الأسس الثلاثة وُجدت المسؤولية الجنائية، وإذا انعدم أحدها انعدمت المسؤولية الجنائية.
والكلام عن المسؤولية الجنائية المترتبة على فعل مهندس البناء إنما هو في مجال ممارسته المهنة؛ لأن تصرفاته خارج المهنة لا تختلف عن غيره.

حكم المسألة

لقد سعت الشريعة الإسلامية إلى تقرير مبدأ المسؤولية الجنائية، وذلك تحقيقاً للعدل بين الناس، وإشاعته في عموم شؤونهم، ورد المظالم إلى أهلها، وحفظاً لاستقرار المجتمع، والآيات في ذلك من كتاب الله عز وجل كثيرة منها:

قول الله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194]، وقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 179]، وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى: 40].

فالجزاء في المسؤولية الجنائية يتمثل في عقاب ينال الجاني في بدنه، أو حريته، أو ماله، وغير ذلك، بقصد تأديبه وزجره جزاء ما اقترف بمخالفته أوامر الشرع ونواهيه، وبناء عليه تتنوع المسؤولية الجنائية وتتعدد درجاتها بحسب تنوع العصيان وتعدد درجاته.

ووظيفة الأحكام الجنائية الإسلامية العمل على حماية الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال)، ويضع في اعتباره أن ثمة صوراً شاذة من السلوك الإنساني لابد أن ينطوي عليها كل مجتمع مهما ارتقى، ولا تُجدي إزاءها الوسائل الذاتية والاجتماعية في مكافحة الجريمة، ولذلك وُجد في أحكام الجنايات في الفقه ما يردع مثل هذه الصور، فيحول دون استفحال أمرها واستشراء خطرها؛ لأن للفساد قوته الغلاّبة في الإغراء، ومن طبيعة الشر إذا تُرك أن يستفحل، فإذا ضعُف النظام الجنائي، أو خارت بعض جوانبه أدّى ذلك إلى تسرب الفساد إلى الجماعة شيئاً فشيئاً، ومن ثم يدب الوهن والخور في أوصالها مما يجعلها مرتعاً خصباً للشر والجريمة، وينتكس المجتمع، فيُصبح الشر فيه هو الأصل بعد أن كان استثناءً محضاً، ويُفهم من هذا أن العقوبة أُقرت لإصلاح الأفراد، وحماية وصيانة نظامها.

أنواع العقوبات التعزيرية التي يمكن أن يُعاقب بها مهندس البناء:

الفرع الأول: تعزير المهندس بالتشهير.

والمراد بعقوبة التشهير: الإعلان عن جريمة المحكوم عليه، وإعلام الناس بالجناية التي صدرت منه، ويكون التشهير في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس كشهادة الزور، والغش، والرشوة، ونحوها.

وتختلف وسائل التشهير في القديم عنها في العصر الحاضر.

فمن صور عقوبة التشهير قديماً: المناداة على المجرم والتعريف بذنبه في الأسواق والمجامع العامة، أو إركابه حماراً، أو جملاً مع إلباسه الطرطور- تلبس في الرأس وهي دقيقة وطويلة-، أو إخراجه من السوق، أو نزع عمامته حتى يراه الناس ويشتهر أمره إذا كان في عرف أهل بلده يُعدّ هواناً، وكان ولاة الحسبة يأمرون من يطوف بالمذنب في الأسواق أن يُنادي قائلاً: هذا فلان قد فعل كذا – ويذكر ما دعا إلى التشهير به – فاحذروه.

 

أما في العصر الحاضر فللتشهير وسائل متعددة منها:

الإعلان عن المذنب وجريمته عن طريق وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، أو إلصاق الحكم الصادر بحقه في منطقة نشاطه، أو مكان ارتكابه للجريمة، وكل ذلك لأجل زجر العامة عن مثله.

 

ولتطبيق عقوبة التشهير أغراض متعددة منها:

أولاً: التنكيل بالشخص وتأديبه جزاء لما اقترفه من جرم.

ثانياً: انكشاف أمره وافتضاحه أمام الناس كي يحذروه ويجتنبوا معاملته ويفقدوا ثقتهم به.

وعقوبة التشهير في هذا الزمان أعظم نكاية بالغشاشين؛ لأنها تصيب الغاش في سمعته التجارية وتعامل الناس معه، مما يكون أثره أعظم عند بعضهم من العقوبة البدنية، أو العقوبة المالية, ولهذا ينبغي للقاضي إذا أراد التعزير أن ينظر المصلحة الشرعية في ردع الظالم؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأعصار والأمصار, وعقوبة التشهير في السابق أهون بكثير من عقوبتها في هذا الزمان, الذي أصبحت السمعة التجارية فيه تُشترى بالأموال الطائلة، ويدخل في ذلك معاقبة مهندس البناء بالتشهير به وبخطئه الذي صدر منه حتى يعلم الناس به ويجتنبوا التعامل معه.

 

الفرع الثاني: تعزير المهندس بحرمانه من الحقوق المقررة للمهندسين.

من التعزيرات المعنوية: الحرمان من ممارسة بعض الحقوق، ويمكن تعزير مهندس البناء بمنعه من بعض الحقوق المباحة والمشروعة له، بسبب ما أقدم عليه من فعل منكر.

وبناء على ذلك فيجوز معاقبة مهندس البناء بحرمانه من بعض الحقوق المقررة للمهندسين إذا صدر منه فعل يستحق عليه العقوبة، وعلى سبيل المثال: يُمكن حرمانه من استلام المشاريع الكبيرة، أو حرمانه من المشاركة في الهيئات والنقابات الهندسية.

 

الفرع الثالث: تعزير المهندس بمنعه من مزاولة عمله.

والمراد بالمنع من مزاولة العمل: حرمان الشخص من وظيفته، وحرمانه تبعاً لذلك من راتبه الذي يتقاضاه عنها، لعزله عن عمله.

وتعزير مهندس البناء بذلك يكون بحرمانه من مزاولة العمل وسحب الثقة منه، وذلك لمنعه من أذية الناس والإضرار بهم؛ لأن ذلك مُحقق للمصلحة من أجل تحصيلها، ومُوجب لدرء المفسدة من أجل دفعها ورفعها، تبعاً للقاعدة الشرعية: (يُتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام)، وبما أن الضرر الخاص لا يكون مثل الضرر العام بل دونه، فيُدفع الضرر العام به، فمنع مهندس البناء الجاهل، أو الخائن من مزاولة عمله ضرر له، إلا أنه خاص به، ولكن لو تُرك وشأنه يحصل من مزاولته العمل الهندسي ضرر عام كإهلاك كثير من الناس.

ويمكن أن يُستخلص مما تقدم أن عقوبة العزل تُطبق في شأن كل من ظهرت خيانته في أداء عمله المكلف به بمقتضى وظيفته، وكذلك في شأن كل جريمة يكون معها المرء فاقداً لصلاحيته للقيام بعمله ولو كان تجارياً، كما تقضي بذلك المصلحة العامة، فالعزل مجاله كل جريمة يدعو ارتكابها إلى عدم الثقة بالجاني.

ولا شك أن عمل مهندس البناء يدخل في نطاق النشاط التجاري، والنشاط التجاري يُعد من أغلب المكاسب التي يمتهنها الكثير من الناس، ليتوصلوا عن طريقها إلى الربح المادي، لذلك كان الحرمان منها مؤلماً، لا سيما لمن يزاولها وحصّل منها المكاسب المادية، وكان الحرمان منها يُعد عقوبة رادعةً وزاجرة، وعليه فإن مهندس البناء حينما يعرف أنه معاقب على كل ما يصدر منه من تعدٍ على أبدان الناس وأموالهم، وأنه محاسب عن كل تقصير يقع منه، وأن عقوبة ذلك قد تصل إلى منعه من مزاولة عمله، لا شك أنه يزيد في التزامه بالقواعد الفنية الجارية في علم الهندسة، مع أخذ الحيطة والحذر.

 

الفرع الرابع: تعزير المهندس بالمال.

اختلف أهل العلم – رحمهم الله – في مشروعية التعزير بالمال على قولين فمنهم من جرّد التعزير بالمال من الشرعية معللاً أنه قد نُسخ، ومنهم من أنكر النسخ وأجاز التعزير بالمال.

وإذا ثبتت مشروعية التعزير بالمال، فإن له صوراً ثلاثاً:

الصورة الأولى: الإتلاف، والإتلاف هو: إخراج الشيء من أن يكون منتفعاً به منفعةً مطلوبةً منه عادةً.

الصورة الثانية: الغرامة، والغرامة هي: أخذ مبلغ من المال لا علاقة له بالمعصية المرتكبة.

الصورة الثالثة: المصادرة، والمصادرة هي: نزع ملكية الشيء المملوك بحكم شرعي.

وبناء على ذلك فيجوز معاقبة مهندس البناء عقوبة مالية بإحدى الصور الثلاث: الإتلاف، أو الغرامة، أو المصادرة، وذلك إذا صدر منه فعل يستحق عليه العقوبة.

 

الفرع الخامس: تعزير المهندس بالحبس.

وعقوبة الحبس يمكن تطبيقها في حق مهندس البناء إذا صدر منه في عمله الهندسي ما يدل على الغش والتدليس والتغرير بالناس، علماً أن هذه العقوبة من العقوبات الدارجة.

 

الفرع السادس: تعزير المهندس بالجلد.

عقوبة الجلد يمكن تطبيقها في حق مهندس البناء إذا صدر منه في عمله الهندسي ما يدل على الغش والتدليس والتغرير بالناس مع عدم اتباعٍ للأصول العلمية المعتبرة عند المختصين، على وجه يتضمن الاستخفاف بحرمة أرواح الناس وأموالهم، الأمر الذي يُوجب معاقبة صاحبه بما يردعه ويزجر غيره عن فعله، فلو فُتح هذا الباب وتُرك المفرطون على حالهم لأدى ذلك إلى مفسدة عظيمة، فوجب قفل السبل المُفضية إليها بتعزير كل من سوَّلت له نفسه الإقدام على أعمال الهندسة بدون علم ودراية.

 

الفرع السابع: تعزير المهندس بالقتل.

الأصل في عقوبات التعزير أنها للتأديب، وأنه يجوز من التعزير ما أُمنت عاقبته غالباً، وأنه لا يبلغ بالتعزير القتل، إلا أن طائفة من الفقهاء – رحمهم الله – استثنوا من هذه القاعدة العامة جواز القتل تعزيراً حيث اقتضت ذلك المصلحة العامة، وهم بين مضيق وموسع.

ولكن هل يُمكن أن يبلغ بتعزير مهندس البناء إلى القتل؟

إن الذنب إذا تغلظ في نفسه، أو في فاعله، أو في ظروفه وملابسته، فإنه تتغلظ العقوبة عليه، ويتعاظم الأمر إذا وقع الفعل الضار من أرباب مهنة الهندسة، التي تقوم على الدقة والإتقان، فإذا غرر مهندس البناء برب العمل وغشه وخادعه، فإنه خائن للأمانة، وخيانة الأمانة جريمة تستوجب تعزيراً مستقلاً.

ويزداد الفساد إذا كان مهندس البناء متمالئاً مع غيره من المهندسين، أو المقاولين، أو الفنيين، ويتفاقم الأمر إذا كان مهندس البناء عضواً في عصابة إجرامية تقوم على بناء الأبراج والمنشآت الضخمة مع علمهم بأن التصميم والتنفيذ والإشراف عليه لا يوافق الأصول الفنية في علم الهندسة لقاء عرض من الدنيا رخيص، مما ينتج عنه انهيارات رهيبة، وذهاب للأنفس، وهدر للأموال، وبناءً على ما تقدم، فإن منع الفساد بحسم مادته، وقطع أسبابه، وتحقيق أمن المجتمع، ودفع الشرور والمخاوف عنه، يقتضي القول بقتل مهندس البناء تعزيراً.

المراجع

• مسؤولية مهندس البناء (رسالة دكتوراه ـ قسم الفقه ـ كلية الشريعة) د. عبدالسلام الغامدي (406- 430) فما بعدها.
• المسؤولية الجنائية لمشيدي البناء، غنام محمد غنام.

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى