كان الناس قديما يتم التبادل بينهم بطريق المقايضة، ثم لما صعبت عليهم تلك الطريقة عينوا بعض السلع التي تشتد الحاجة إليها من جلود وأغذية لتكون ثمنا في غالب عقودهم, وكانت تلك الأشياء تحتاج إلى نقل وحمل مما جعل فيها مشقة اضطرت الناس إلى البحث عما هو أخف منها، فعمدوا إلى الذهب والفضة وتعاملوا بهما واستمر ذلك حتى أصبحت مسبوكة على قطع متساوية في الحجم والوزن ومختومة بما يدل على سلامتها, وأصبح التجار يودعون تلك النقود عند الصاغة والصيارفة خوفا عليها من السرقة، ويأخذون منهم وثائق بإيداعها، ولما أصبح هؤلاء محل ثقة من الناس استعملت الوثائق التي تؤخذ منهم في دفع الأثمان عند المبايعات، وكان ذلك هو بداية استعمال ما سمي بعد ذلك بالورق النقدي وتطور حتى أصبح صورة رسمية سميت بـ (البنك نوت)، وكانت البنوك في أول الأمر لا تصدر منها إلا بقدر ما عندها من الذهب واتخذتها الدول ثمنا قانونيا وألزمت الناس بقبولها, وصارت الدول بعد ذلك تطبع من هذه الأوراق لحاجتها إلى النقود أكثر مما عندها من الذهب حتى وصل الأمر إلى منع تحويلها ذهبا أصلا وألزم الناس بقبولها كبديل للذهب..
فكيف تكيف هذه الأوراق من الناحية الفقهية. . وكيف تكون زكاتها؟
تعددت آراء فقهاء في تكييف الأوراق النقدية من الناحية الفقهية لعل أبرزها:
الاتجاه الأول: أنها سند بدين على مصدرها والرقم المكتوب عليها يمثل هذا الدين، وممن قال بهذا القول محمد الأمين الشنقيطي.
ودليلهم أنها مسجل عليها تسليم قيمتها لحاملها والتزام الحكومات بذلك دال على أنها وثائق بالديون التي في ذمة مصدرها، وأن تغطيتها بالذهب والفضة دليل على أنهما المقصودان والأوراق سند بهما.
ونوقش بأن الالتزام المذكور لم يعد حقيقيا في هذه الأزمنة وإنما المقصود من إبقائه شكليا تأكيد المسؤولية على جهات الإصدار للحد من الإفراط دون إحلال أسباب الثقة.
وفيما يتعلق بتغطيتها بالذهب أو الفضة هو أيضا لا يسلم بذلك لمخالفته للواقع، وذلك أن الغطاء المذكور ليس لكل الأوراق النقدية وإنما هو لجزء محدود منها, إضافة إلى أنه لا يلزم أن يكون ذهبا أو فضة بل قد يكون عقارا, ويبقى كثير من تلك الأوراق بلا تغطية.
الاتجاه الثاني: أنها عرض من العروض لها أحكام العروض وليس لها صفة الثمنية, وممن قال بهذا القول عبد الرحمن السعدي.
ودليلهم أن هذه الأوراق مال متقوم مرغوب فيه يباع ويشترى وليس ذهبا ولا فضة ولا مكيلا ولا موزونا، فتعين أن يكون عروضا.
ونوقش بأن الأوراق النقدية ليس لها قيمة ذاتية بل قيمتها اصطلاحية تعتمد على اعتبار الدولة لها، ولو ألغي ذلك الاعتبار لعادت قصاصات ورقية ليس لها أي قيمة. إضافة إلى أن هذا القول يستلزم أمورا تدل على ضعفه منها: عدم جريان الربا مما يجوز التفاضل والنساء في هذه الأوراق وهي عملة للناس ولا يخفى الضرر الكبير الذي يمثله ذلك تجاه اقتصاد الناس هو من أعظم أسباب تحريم الربا، ومنها: – عدم وجوب الزكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة.
الاتجاه الثالث: أنها كالفلوس في طروء الثمنية عليها, وممن قال بهذا القول عبد الله البسام.
ودليلهم أن الأوراق النقدية عملة رائجة تقوم بها الأشياء وليست ذهبا ولا فضة، وأقرب الأشياء إليها الفلوس لأنهما معا نقد اصطلاحي فتلحق بها.
ونوقش بأن الأوراق تفارق الفلوس من عدة نواح منها: أنها أكثر قبولا ورواجا من الفلوس، ثم إنها ليست لها قيمة ذاتية بخلاف الفلوس، ثم إن الأوراق النقدية في غلائها مثل النقدين بل تفوقهما أحيانا بخلاف الفلوس.
الاتجاه الرابع: أنها بدل من الذهب والفضة تقوم مقامهما، ومن أبرز من قال به: الشيخ عبد الرزاق عفيفي.
ودليله أن هذه الأوراق تكسب قيمتها مما استندت إليه من غطاء الذهب أو الفضة فهي بدل عما استعيض بها عنه وللبدل حكم المبدل.
ونوقش بأن هذا مبني على افتراض غير واقع وهو تغطية الأوراق النقدية بالذهب أو الفضة كما أنه يلزم عليه اعتبار جميع الأوراق جنسا واحدا مما يجب معه المماثلة عند الصرف وفي هذا مشقة على الناس لا موجب لها.
الاتجاه الخامس: أنها نقد مستقل بذاته يجري عليه ما يجري على الذهب والفضة من أحكام نقدية، ويعتبر كل نوع جنسا مستقلا وهو قول أكثر العلماء المعاصرين، وهو الرأي الذي استقر عليه رأي المجامع الفقهية والهيئات العلمية في العالم الإسلامي، فقد أخذ به مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، والمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة التعاون الإسلامي.
وذلك لاشتمال النقود الورقية على وظائف النقود، فهي مقاييس للقيم وموجبة للإبراء ومستودع للثروة يمكن اختزانها عند الحاجة ولثقة الناس الكبيرة في التعامل بها لقانونيتها وحماية الدولة لها، والصفة النقدية ليست مختصة بالذهب والفضة بل هي ثابتة لكل ما يتخذه الناس نقودا ويؤدي وظائف النقود ومن ذلك تلك الأوراق النقدية.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي: (.. بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة. وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل، وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوَّمُ الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية، وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، يقرر: أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلاً ونسيئاً، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماماً، باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانياً: يعتبر الورق النقدي نقداً قائماً بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناساً مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس. وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسيئاً، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان.. وهذا يقتضي وجوب زكاة الأوراق النقدية، إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة..)
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بالهند قرار رقم:4 (3/2)
بشأن التكييف الشرعي للعملات الورقية: – لم يبق الذهب والفضة وسيلة للتبادل في العصر الراهن، واحتلت مكانهما العملات الورقية، وقوانين الدولة كذلك تعتبر العملات الورقية ثمناً بصفة كاملة، وتقرر للناس قبول هذه العملات الورقية كثمن، والحاصل أنه قد أصبحت العملات الورقية ثمناً قانونياً في التعامل والأعراف، ومن ثم ظهرت مشكلات من الناحية الشرعية بصدد هذا التعامل، فتناولت الندوة الموضوع بالبحث والنقاش وبعد ذلك قرَّرت بإجماع المشاركين ما يلي:
أولاً: العملات الورقية ليست وثيقة وسنداً، ولكنها ثمن، وهي في الشرع بمثابة الثمن الاصطلاحي والقانوني على الوجه الأكمل.
ثانياً: إن العملات الورقية قد احتلت في العصر الراهن صفة الثمن الخَلْقي (الذهب والفضة) باعتبارها وسيلة للتبادل والتعامل، وعن طريقها يتم التعامل اليوم، وعليه، فإنها تشبه الثمن الحقيقي في الأحكام تماماً، لذا لا يجوز تبادل عملة بلد بعملة نفس ذلك البلد بالزيادة أو النقصان لا معجلاً ولا مؤجلاً.
ثالثاً: العملات الورقية لبلدين مختلفين تعتبر جنسين مختلفين، وبناءً على هذا يجوز تبادل مثل هذه العملات الورقية بالزيادة والنقصان عند تراضي الطرفين.
رابعاً: تجب الزكاة على العملات الورقية.
خامساً: يعتبر نصاب الزكاة في العملات الورقية بما يساوي ثمن نصاب الفضة.
ومقدار الزكاة الواجب في الأوراق النقدية هو مقدار الزكاة في الدنانير والدراهم وهو ربع العشر أي اثنان ونصف في المئة.
1. الأوراق النقدية -دراسة فقهية- لسلطان الجاسر، رسالة ماجستير-قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ص(142-205).
2. الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي، أحمد حسن، ص(204).
3. بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة أموال الأوراق، أحمد الحسيني ص(22).
4. الفتاوى السعدية، عبدالرحمن السعدي، ص(315).
5. فقه القضايا المعاصرة في العبادات لعبدالله بن بكر أبو زيد، (1/729-730).
6. قرارات مجمع الفقه الإسلامي بالهند، (1/27) رقم 4 (3/2).
7. قرارات المجمع الفقهي الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي، ص(40).
8. مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 31، ص(376) قرار: (10).
9. مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، العدد الثالث (3/1650)، والعدد الخامس (3/1609).
10. الورق النقدي، عبدالله بن سليمان ابن منيع ص(65-60).
11. الأوراق النقدية -دراسة فقهية-سلطان الجاسر.