قسم العباداتباب الطهارة

حكم طهارة العطور المشتملة على مادة الكحول (الكولونيا)

مسألة رقم 3

صورة المسألة

إن مما انتشر بين الناس في عصرنا هذا استعمال العطور الصناعية، وهي المعروفة بـ: “الكولونيا”([1])، التي يدخل في تركيبتها الكيميائية بشكل أساس مادة الكحول، وهو المعروف في لغة العرب باسم الغَوْل([2])، ويشكل الكحول الإيثيلي 90% من معظم أنواع الكولونيا([3]).

وشرب الكحول مسبب للسكر، فهل تأخذ هذه العطور حكم الخمر من حيث النجاسة والطهارة؟

([1]) سمِّيت بذلك نسبة إلى مدينة كولن الألمانية، التي تم اكتشاف الكولونيا فيها عام 1690م، وبقيت مركزا لصناعة العطر الممزوج بالكحول، ومنها انتشرت إلى باقي دول العالم.

ينظر: الموسوعة العربية الميسرة ص(1513).

([2]) الغول في اللغة: مأخوذ من غاله الشيء غولا واغتاله: أهلكه وأخذه من حيث لا يدري، وأصله الفساد الذي يلحق في خفاء. والغول ما ينشأ عن الخمر من صداع وسكر، ومنها قوله تعالى: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات: 47] أي ليس فيها غائلة الصداع ولا يسكرون. وقيل الغول: السكر. ولعل كلمة كحول باللاتينية أصلها كلمة غول، فحرفت، ثم رجعت إلينا باسم: كحول.

ينظر: لسان العرب لابن منظور (14/22) مادة (غول)، وفتح القدير للشوكاني (4/394) و(5/150).

([3]) الكحول والمخدرات والمنبهات، محمد علي البار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي ص(358).

حكم المسألة

اختلف المعاصرون في حكم العطور المشتملة على مادة الكحول من حيث نجاستها وطهارتها على اتجاهين:

الاتجاه الأول: أن هذه العطور نجسة العين، وهو قول محمد بن إبراهيم([1])، ومحمد الأمين الشنقيطي([2])، وعبدالله بن حميد([3])، وصالح الفوزان([4])، وعليه فتوى موقع إسلام ويب([5])، وهو ما يفهم من كلام ابن باز – رحمه الله – في جوابه عن سؤال ورد إليه ونصه: هل يجوز استعمال الروائح العطرية المسماة بـ: “الكولونيا” المشتملة على مادة الكحول؟ ومما قاله في الجواب: “وأما الصلاة ففي صحتها نظر؛ لأن الجمهور يرون نجاسة المسكر، ويرون أن من صلى متلبساً بالنجاسة ذاكراً عامداً لم تصح صلاته. وذهب بعض أهل العلم إلى عدم تنجيس المسكر. وبذلك يعلم أن من صلى وهي في ثيابه أو بعض بدنه ناسياً، أو جاهلاً حكمها، أو معتقداً طهارتها، فصلاته صحيحة. والأحوط: غسل ما أصاب البدن والثوب منها؛ خروجاً من خلاف العلماء”([6]).

ودليل هذا القول: أنه قد ثبت بقول الأطباء وأهل الاختصاص أن شرب هذه العطور يؤدي إلى الإسكار، لما تحويه من مادة الكحول، وكل مسكر خمر، والخمر نجس؛ في قول جماهير أهل العلم، ويدل على نجاسته:

أولا: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90].

ووجه الدلالة: أن الله تعالى وصف الخمر بأنه رجس، والرجس: النجس، فهو نجس حسًّا ومعنى.

 

ثانيا: حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ قال: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله ﷺ : (إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها -أي اغسلوها- بالماء وكلوا واشربوا). [أحمد (4/193-195)، وأبوداوود (3344)]

 

الاتجاه الثاني: أن هذه العطور طاهرة، وبه صدرت فتوى لجنة الأزهر([7])، وقرار مجمع الفقه الإسلامي بالهند([8])، وفتوى وزارة الأوقاف الكويتية([9])، وهو اختيار الطاهر ابن عاشور في تفسيره ([10])، وأحمد الزرقا([11])، وسيد سابق([12])، وابن عثيمين([13])، والألباني([14])، ورشيد رضا([15])، وأحمد بن حجر آل بوطامي([16])، رحمهم الله جميعا، وعليه أكثر علماء العصر.

ودليل هذا القول:

أولا: قالوا: إن الكحول الذي يستعمل في العطور هو الكحول الإيثيلي النقي، يستخرج عن طريق المعالجة الكيميائية، كتحويل غاز الإيثان إلى سائل كحولي، وليس من كحول الخمر، فيكون طاهرا لأن الأصل في الأشياء الطهارة([17]).

ثانيا: إن الغول المستخدم في العطور عبارة عن غازات متطايرة لا تستقر على البدن ولا الثوب، وحينئذ تدخل على فرض التسليم بنجاستها تحت مسألة أخرى، وهي: هل بخار النجاسة نجس أيضا؟ وجماهير العلماء على طهارته.

ثالثا: قالوا: ولو سلمنا بأنه من كحول الخمر، فإن الخمر ليس بنجس، والرجس الوارد في الآية إذا سلمنا حمله على معنى النجس، فهي نجاسة معنوية، كنجاسة الكافر والميسر والأنصاب والأزلام، ويدل على عدم نجاسته ما يلي:

حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فأمر رسول الله ﷺ مناديا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فقال أبوطلحة: اخرج فأرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة). [رواه البخاري (2464)].

ووجه الدلالة منه: أنها لو كانت نجسة لما سفكها الصحابة في طرق المدينة، لئلا تصيبهم النجاسة، ولنهاهم رسول الله ﷺ ، ولما لم ينقل ذلك دل على طهارتها.

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أهدى رسول الله ﷺ راوية خمر فقال له رسول الله ﷺ : هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا، فسارَّ إنساناً، فقال له النبي ﷺ : بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها). [رواه مسلم (1579)].

ووجه الدلالة: أن النبي ﷺ لم يأمره بغسل مزادته، ولو كانت الخمرة نجسة لبين له ذلك، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.


([1]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (2/93)، فتوى(379).

([2]) أضواء البيان (2/129).

([3]) فتاوى سماحة الشيخ عبدالله بن حميد، ص(61).

([4]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، رقم (16470).

([5]) فتوى رقم (254)، و(47204)، و(38784)، وغيرها كثير، يراجع الموقع:

http://www.islamweb.net

([6]) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن باز، (10/111).

([7]) الفتاوى الإسلامية، دار الإفتاء المصرية، (5/1652)، فتوى رقم(723).

([8]) قرارات مجمع الفقه الإسلامي بالهند ص(309).

([9]) فتاوى وزارة الأوقاف بدولة الكويت (1/184).

([10]) التحرير والتنوير (7/24).

([11]) لباب النقول في طهارة العطور ص(110).

([12]) فقه السنة (1/27).

([13]) مجموع فتاوى الشيخ العثيمين (11/252).

([14]) الأحاديث الصحيحة (5/460).

([15]) تفسير المنار (5/505، و821، و866).

([16]) اختيارات الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي ص(122).

([17]) لباب النقول في طهارة العطور ص(108)، أحكام النجاسات في الفقه الإسلامي ص(240).

المراجع

1. أحكام الأدوية في الشريعة الإسلامية، حسن بن أحمد الفكي، ص(282).
2. أحكام النجاسات في الفقه الإسلامي، عبدالمجيد صلاحين، ص(240).
3. اختيارات الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، عبدالله بن يوسف، ص(122).
4. أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (2/129).
5. بحوث في قضايا فقهية معاصرة، محمد تقي العثماني، ص(339 -341).
6. اختيارات الشيخ ابن باز، (2/1519).
7. الخمر بين الفقه والطب، محمد علي البار، ص
8. الخمر والكولونيا، مجلة البحوث الإسلامية، العدد (38)، ص(23-84).
9. الطيب وأثره في الأحكام، صالح السلطان، ص(224).
10. العطور وأثرها: دراسة فقهية، نجاح بنت عيسى عقيلان،.
11. فتاوى إسلامية (1/195).
12. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، السؤال الثاني من الفتوى رقم (3426).
13. فتاوى وزارة الأوقاف بدولة الكويت، (1/184).
14. فقه السنة، السيد سابق، (1/27).
15. فقه النوازل للجيزاني، (2/135).
16. قرارات مجمع الفقه الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي، ص(45).
17. قرارات مجمع الفقه الإسلامي بالهند، ص(309).
18. مسائل معاصرة مما تعم به البلوى، نايف بن جمعان حريدان، ص(185).
19. المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء بين النظرية والتطبيق، نزيه كمال حماد، ص(29-33).

مسائل ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى