غسل الدماغ
غسيل المخ هو: إعادة البناء الفكري للإنسان من خلال تغيير شخصيته عن طريق أساليب فسيولوجية نفسية.
وله عدة إطلاقات ومسميات منها: (غسيل الدماغ)، أو (لحس المخ أو الدماغ)، أو التفكيك النفسي، أو إصلاح الفكر، أو إعادة التشكيل الأيديولوجي، أو تغيير الاتجاهات، أو قتل العقل، أو الإقناع الإجباري، أو التشويه النفسي، ونحو ذلك.
ويهدف غسيل المخ إلى تحقيق أهداف مختلفة، منها:
أولاً: الاعتداء على العقائد والقيم التي يؤمن بها الإنسان، وزرع عقائد أو قيم معينة يؤمن بها الخصم، وهذا ما قامت به بعض البعثات التنصيرية في السنغال؛ حيث كانت توقع عقوداً مع عدد من الأسر السنغالية، ببذل مساعدات عينية من الأرز وغيره كل شهر لبعض الأسر على أن يكون لها الحق في اختيار ابن من أبناء الأسرة لتربيته على حسابها، وترسل الابن إلى مدرسة تنصيرية وينقطع عن أهله، ويتم إقناعه بالتعاليم المسيحية، ثم يرسل إلى فرنسا لإتمام تحصيله العالي، ويعاد إلى بلده محملاً بهمِّ التنصير، أو على الأقل محملاً بقِيَم الغرب، وممجداً لأفكارهم.
ثانياً: غسيل المخ لتحقيق أهداف ومطامع سياسية، كالتجسس لصالح من قام بعملية غسيل المخ.
ثالثاً: غسل المخ لتحقيق دوافع جنائية، بحيث يقوم الشخص نيابة عن المغسِّل بإيقاع الجناية.
هذه المسألة لها أحوال:
الحال الأولى: استخدام عمليات غسيل المخ بقصد تبديل الدِّين وتغيير العقائد.
وهذه العمليات لا يخلو هدفها من أحد أمرين:
الأمر الأول: تغيير عقيدة المسلم وتبديل قيمه إلى عقائد وقيم معادية.
فهذه الجريمة تعتبر من أخطر الجرائم لما يلي:
أولاً: أن الاعتداء على العقيدة وزعزعة القيم من أعظم الجرائم على الإطلاق؛ إذ غاية ما يترتب على غيرها من الجرائم ضرر دنيوي، أما الجرائم التي تستهدف عقيدة المسلم وقيمه ففيها ضرر الدنيا وخسارة الآخرة.
ثانياً: أن مبدأ حفظ العقيدة وصيانة الفكر من أهم المبادئ التي حرصت الشريعة على رعايتها والعناية بها، ولذا نرى العديد من التشريعات التي جاءت تحقيقاً لهذا المبدأ، وسداً للذريعة التي قد توصل إلى زعزعة عقيدة المسلم أو التأثير فيها.
الأمر الثاني: أن يراد بها غسيل مخ الكافر وتحويله قهراً من ملة الكفر إلى ملة الإسلام باستخدام الأساليب المعتادة في غسيل المخ.
وهذا الأمر لا يشرع، وهو من جملة الجرائم التي ترفضها الشريعة الإسلامية، وذلك لما يلي:
أولاً: أن عملية غسيل المخ بالأساليب التعسفية تعني إكراه الإنسان على الإيمان بعقيدة وقيم هو في الأساس لا يؤمن بها، وحمله على مبدأ بغير إرادة منه ورغبة، وهذا أمر لا تقره الشريعة؛ لأن الدخول في الإسلام يجب أن يكون عن رغبة وإرادة فالأعمال بالنيات.
ثانياً: أن الأساليب القاسية المستخدمة في هذه العملية أساليب مرفوضة شرعاً، وذلك لما يلي:
أ ـ أنها تعذيب الإنسان جسدياً ونفسياً، وهذا الأمر مما جاءت السنة بالوعيد عليه.
ب ـ أنها تهدف إلى إذلال الإنسان وإهانته والحط من كرامته، والشريعة جاءت بتكريمه ورفع شأنه.
ج ـ عموم قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار).
د ـ ولأن استخدام هذه الأساليب – ولو كان الباعث عليها نبيلاً – من العداون المنهي عنه.
هـ ـ أن استخدام الأساليب العنيفة لإدخال الناس في الدين من التعسير على المدعو عند دعوته، وهو أمر جاءت الشريعة بالنهي عنه؛ لما فيه من الأذى ولما يترتب عليه من تنفير الناس عن الإسلام.
الحال الثانية: استخدام هذا النوع من العمليات في التحقيقات الجنائية.
وهذا الاستعمال لا يشرع.
وذلك لما فيه من الاعتداء على سلامة جسد المتهم وعقله وحريته في الإقرار بالجناية؛ إذ الإقرارات التي يتم الحصول عليها من المتهم بعد تعريضه لتلك الأساليب الوحشية يمكن تصنيفها ضمن الاعترافات والإقرارات التي تؤخذ عن طريق الإكراه.
والمعتبر في الإقرار في الشريعة ما كان بكامل الحرية والاختيار.
وحكي إجماعاً عدم ترتيب العقوبة على إقرار المكره.
الحال الثالثة: استخدام هذه العمليات لإيجاد الفكرة الإجرامية والحض على الجريمة والدفع إليها.
فعملية غسل المخ هنا من قبيل الإكراه المعنوي، والإكراه على الجريمة؛ وهذا يندرج في الفقه الإسلامي فيما يطلق عليه: (القتل بالتسبب).
وفي نصوص أنظمة العقوبات المعاصرة تعتبر جريمة الدفع للجريمة عن طريق عملية غسيل المخ من قبيل التحريض على الجريمة، وهو مصنف ضمن ما يعرف عندهم بالمساهمة المعنوية التي يعتبرونها أحد قسمي المساهمة الجنائية.
أما بالنسبة للمسؤولية الجنائية فالحكم فيها على النحو الآتي:
أولاً: المجري لعملية غسيل المخ لإفساد العقائد والقيم الفاضلة مسؤول جنائياً عن هذه الجريمة، وعلى ولي أمر المسلمين تعزيره بالعقوبة المناسبة لجرمه.
فإن كانت ممارسته لهذه الجريمة على نطاق واسع ومتكرر تدفعه لهذا العمل دوافع دينية أو سياسية فيقتل تعزيراً؛ إذ مثل هذا يعظم فساده، وتشتد الآثار المترتبة على جريمته، ويزيد خطره على الناس لاسيما عوامهم والجهلة منهم.
ثانياً: إن كان استخدام غسيل المخ في التحقيق الجنائي، أو لخدمة دوافع ذاتية غير مشروعة للمختص، وكان التحريض على جرائم لا توجب حداً أو قصاصاً؛ كتحريضه امرأة على التبرج.
فحكمه: التعزير بالعقوبة المناسبة، والتي تختلف حسب شناعة الفكرة المراد غرسها، وما ترتب عليها من أضرار، وحسب تكرر الجريمة من قبل هذا المختص.
كما أن من يعمد إلى الأساليب القاسية في عملية غسيل الأدمغة لتحويل الناس من الكفر إلى الإيمان يستحق العقوبة التعزيرية أيضاً، حسبما يراه القاضي.
ثالثاً: إن كان استخدام عملية غسيل المخ للتحريض أو الأمر بجريمة توجب قصاصاً، أو حداً، كإيعاز الطبيب النفسي المختص للمغسول دماغه بقتل رجل، أو الزنا بامرأة، أو بالسرقة، فإن هذه الجريمة لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن تكون الجريمة المحرض عليها وقعت، وحينها يمكن أن يُخرّج التحريض على الجريمة عن طريق غسيل المخ على مسألة الإكراه المادي أو المعنوي إن ثبت حصول السيطرة الكاملة على ذهن المستهدف، والتمكن من الإلغاء الكامل لإرادته، واستبدالها بإرادة المحرّض.
وهذا النوع من الإكراه تعدم فيه الإرادة تماماً، فإن كانت من جرائم القصاص فعلى الآمر وحده القصاص دون المباشر؛ إذ هذا النوع من الأفعال المبنية على الإكراه لا يمكن نسبتها إلى المباشر، بل إلى الحامل على إيجاد الفعل المطلوب بواسطة استخدم المكرَه كآلة، حيث حمل الإنسان غيره على أمر من الأمور بالإيعاز، وثبت أن الموعز إليه ليس لديه أي نوع من الإرادة.
ويمكن تخريج هذه المسألة على مسألة أمر الصبي والمجنون بالقتل؛ تشبيهاً للمستهدف في جريمة غسيل المخ بالصبي والمجنون؛ لعدم وجود الإدراك والإرادة المعتبرين، والقصاص في هذه المسألة على الآمر وحده باتفاق الفقهاء؛ لكون المكلف الذي صدرت منه الإرادة الإجرامية والصبي والمجنون لا يعدوان كونهما أداة لتنفيذ إرادته، لاسيما وأن الآمر وهو الطبيب في هذه المسألة يملك سلطة ظاهرة على المستهدف.
والحكم باستحقاق الآمر العقوبة دون المأمور هو ما سارت عليه أيضاً أغلب الأنظمة المعاصرة.
أما إن كان التحريض من المختص للمستهدف على جريمة تستوجب حداً فيمكن تخريج هذه المسألة على مسألة: الأمر بجريمة من جرائم الحدود، والقاعدة المقررة فيها: ألا يجب الحد إلا على المباشر؛ لأن المباشرة شرط لإقامة الحدود، وليس على الآمر إلا التعزير؛ لارتكابه معصية لا حد فيها.
لكن إن كان المأمور صبياً لا يميز، وأمره المكلف بإخراج المتاع من حرزه فالحد على الآمر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الصبي آلة بيد الآمر، وهم لا يرون في هذا إخلالاً بقاعدة وجوب الحد على المباشر دون المتسبب؛ لأن المباشر لما كان فاقد التمييز فإن دوره لا يعدو كونه آلةً في يد الآمر، ولما كانت السرقة مما يمكن تحصيله بآلة الغير اعتبر الصبي آلة السرقة، والآمر هو المباشر.
وعند الحنفية: لايجب الحد على الآمر، ولو كان المأمور لا يميز، وذلك مأخوذ من اشتراطهم المباشرة، وهي أن يتولى السارق أخذ المتاع وإخراجه من الحرز بنفسه، ولم يوجد، ويوافقهم المالكية.
لكن على الحاكم تعزيره إذا ثبت تحريضه على السرقة.
أما بقية الحدود كالزنا والشرب والقذف فالعقاب فيها مقصور على المباشر وحده، ولا تلحق المتسبب بحال؛ لأن هذه الجرائم مما لا يمكن تحصيله بآلة الغير فلا تجب العقوبة على المكره أو الآمر.
وإذا ثبت بقاء شيء من الإدراك والعلم بالتحريم واختيار الجناية لمغسول الدماغ – ويُعلم ذلك بالرجوع إلى أهل الاختصاص – في مسائل الاعتداء على الأنفس والأطراف أو على الأمن العام على اعتبار أنه كالاعتداء على النفس يمكن تحصيله بواسطة الغير، أو في جريمة السرقة عند الشافعية والحنابلة فيجب مساءلته جنائياً عن سائر جرائمه، ولذا قال الفقهاء بمعاقبة المأمور بالجناية إن كان فعلها وهو من المكلفين، ولأن هذه الجناية اجتمع فيها تسبب من الآمر ومباشرة من المأمور، وكلاهما مكلف مختار، فيسألان جنائياً عن نتيجة فعليهما.
الحال الثانية: ألا تتم الجريمة المحرض عليها، فهل يعاقب المحرِّض أو لا؟
والجواب عن ذلك: أن التحريض على الجرائم ومواقعة المحرمات سعي لإفساد أمور الدنيا والدين، والإضرار بالمجتمعات، وإلحاق للأذى بالأمة، كما أنه وسيلة من وسائل فشو الجريمة، وشيوع الفاحشة، والعبث بالأمن الفكري والنفسي في بلاد المسلمين، فمن التدابير الوقائية لمنع تلك الإضرار ومدافعتها اعتبار مجرد التحريض جريمة قائمة بذاتها تستوجب المسؤولية الجنائية والعقوبة التعزيرية.
وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية مجرد التحريض جريمة قائمة بذاتها، حيث جاء النهي عن قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير في المعارك، فإن هم حرضوا غيرهم على القتل والقتال جاز قتلهم وإلم يقاتلوا.
• النوازل في الجرائم الطبية (رسالة دكتوراه ـ قسم الفقه ـ كلية الشريعة) د.أمل الدباسي (86) فما بعدها.
• غسيل الدماغ، د. فخري الدباغ (11).
• غسيل المخ وتحطيم العقائد، عبدالحكيم العفيفي (17).
• الاشتراك بالتحريض ووضعه من النظرية العامة للمساهمة الجنائية، د. عبدالفتاح الصيفي(40)، (330).
• المسؤولية الجنائية عن فعل الغير، د. الهمشري (109).
• المساهمة الأصلية في الجريمة، د. فوزية عبدالستار (330).
• الحقوق الجزائية العامة في قانون العقوبات السوري، د. عبدالوهاب حومد (364).