تعمد بعض الشركات والمؤسسات الإعلامية لإنتاج أفلام أو مسلسلات يتم فيها تمثيل أحد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بإظهار تاريخه وأعماله وبطولاته, وعرضها في مشاهد تمثيلية متنوعة في وسائل الإعلام.
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم تمثيل الصحابة على ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول: تحريم تمثيل الصحابة مطلقا كبارهم وصغارهم, وبهذا صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي, وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية, واللجنة الدائمة للإفتاء, وعدد من كبار الفقهاء المعاصرين, واستدلوا بما يأتي :
- أن الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- شرفهم الله بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واختصهم بها دون غيرهم من الناس، ولكرامتهم عند الله أثنى الله عليهم بقوله: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: ٢٩].
ولا يمكن للممثلين مطابقة ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من سمت وهدي.
والذين يقومون بإعداد السيناريو في تمثيل الصحابة -رضوان الله عليهم- ينقلون الغث والسمين، ويحرصون على نقل ما يساعدهم في حبكة المسلسل أو الفيلم وإثارة المشاهد، وربما زادوا عليها أشياء يتخيلونها وأحداثاً يستنتجونها، والواقع بخلاف ذلك.
وقد يتضمن ذلك أن يمثل بعض الممثلين دور الكفار ممن حارب الصحابة أو عذب ضعفاءهم، ويتكلمون بكلمات كفرية، كالحلف باللات والعزى، أو ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به، مما لا يجوز التلفظ به ولا إقراره.
- أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الصحابة، وبين منزلتهم العالية، ومكانتهم الرفيعة. وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله تعالى عليهم به، وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها.
- أن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء به، ويتولاه أناس غالباً ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة، والأخلاق الإسلامية، مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي، وأنه مهما حصل من التحفظ فيشتمل على الكذب والغيبة، كما يضع تمثيل الصحابة -رضوان الله عليهم- في أنفس الناس وضعاً مزرياً، فتتزعزع الثقة بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين، وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم، والجدل والمناقشة في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله، ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به من الإسلام، ولا شك أن هذا منكر، وكما يتخذ هدفاً لبلبلة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم، وكتاب ربهم، وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
- ما يقال من وجود مصلحة، وهي: إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، مع التحري للحقيقة، وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه؛ رغبة في العبرة والاتعاظ، فهذا مجرد فرض وتقدير، فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين، ورواد التمثيل، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.
- من القواعد المقررة في الشريعة: أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه، فمفسدته راجحة؛ فرعاية للمصلحة، وسدّاً للذريعة، وحفاظاً على كرامة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يجب منع ذلك.
- إن المشاهد في التمثيليات التي تقام، والمعهود فيها طابع اللهو، وزخرفة القول، والتصنع في الحركات، ونحو ذلك مما يلفت النظر، ويستميل نفوس الحاضرين، ويستولي على مشاعرهم ولو أدى ذلك إلى ليٍّ في كلام من يمثله، أو تحريف له أو زيادة فيه، وهذا مما لا يليق في نفسه فضلاً عن أنه يقع تمثيلاً من شخصٍ أو جماعةٍ للأنبياء وصحابتهم وأتباعهم فيما يصدر عنهم من أقوال في الدعوة والبلاغ، وما يقومون به من عبادة وجهاد أداء للواجب، ونصرة للإسلام.
- إن الذين يشتغلون بالتمثيل يغلب عليهم عدم تحري الصدق، وعدم التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وفيهم جرأة على المجازفة، وعدم مبالاة بالانزلاق إلى ما لا يليق ما دام في ذلك تحقيق لغرضه من استهواء الناس، وكسب للمادة، ومظهر نجاح في نظر السواد الأعظم من المتفرجين، فإذا قاموا بتمثيل الصحابة ونحوهم أفضى ذلك إلى السخرية والاستهزاء بهم، والنيل من كرامتهم، والحط من قدرهم، وقضى على ما لهم من هيبة ووقار في نفوس المسلمين.
- إذا قدر أن التمثيلية لجانبين: جانب الكافرين، كفرعون وأبي جهل ومن على شاكلتهما، وجانب المؤمنين، كموسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- وأتباعهم، فإن من يمثل الكافرين سيقوم مقامهم، ويتكلم بألسنتهم، فينطق بكلمات الكفر، ويوجه السباب والشتائم للأنبياء، ويرميهم بالكذب والسحر والجنون.. إلخ، ويسفه أحلام الأنبياء وأتباعهم، ويبهتهم بكل ما تسوله له نفسه من الشر والبهتان مما جرى من فرعون وأبي جهل وأضرابهما مع الأنبياء وأتباعهم، لا على وجه الحكاية عنهم، بل على وجه النطق بما نطقوا به من الكفر والضلال هذا إذا لم يزيدوا من عند أنفسهم ما يكسب الموقف بشاعة، ويزيده نكراً وبهتاناً وإلا كانت جريمة التمثيل أشد، وبلاؤها أعظم، وذلك مما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من الكفر وفساد المجتمع ونقيصة الأنبياء والصالحين.
- دعوى أن هذا العرض التمثيلي لما جرى بين المسلمين والكافرين طريق من طرق البلاغ الناجح، والدعوة المؤثرة، والاعتبار بالتاريخ، دعوى يردها الواقع، وعلى تقدير صحتها فشرها يطغى على خيرها، ومفسدتها تربو على مصلحتها، وما كان كذلك يجب منعه والقضاء على التفكير فيه.
الاتجاه الثاني: تحريم تمثيل كبار الصحابة كالخلفاء الراشدين والحسن والحسين ومعاوية وأبنائهم رضي الله عنهم، وجواز تمثيل من سواهم, وبهذا صدرت فتوى لجنة الأزهر, وقال به بعض الفقهاء المعاصرين, واستدلوا على جواز تمثيل من سوى كبار الصحابة بما يأتي :
1- البراءة الأصلية, فالتمثيل على الأصل وهو الإباحة, إذ لايوجد دليل شرعي صحيح صريح يدل على منع التمثيل, وقد كان معروفا عند الأمم السابقة كاليونان والرومان, ولم يتعرض له الإسلام بإلغاء أو منع ولو كان محرما لبين الإسلام حكمه.
2- تمثل جبريل ـ عليه السلام ـ لمريم بشرا سويا, قال تعالى: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) [مريم: 17].
3- أن الملائكة جاءوا إلى إبراهيم – صلى الله عليه وسلم – في صورة بشر, وكذلك جاءوا لوطا عليه الصلاة والسلام, وما قصه الله في كتابه مما وقع لنبيه داود عليه الصلاة والسلام.
4-قصة مجىء جبريل – عليه السلام – إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صورة أعرابي شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر …. وقوله – عليه الصلاة والسلام – : (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) [البخاري ( 50), مسلم (8)].
5-اشتمال التمثيل على مصالح ومنافع عظيمة, فهو وسيلة تربوية مؤثرة تصل إلى العقول والقلوب بأبلغ الأثر وأعمقه, وهو وسيلة فاعلة لتوجيه أهداف المشاهدين واتجاهاتهم, فهو يتجاوز بذلك كونه عنصر لهو وترفيه إلى مرتبة توجيه وتثقيف.
6-أن التمثيل أصبح في عصرنا الحديث ضرورة تمليه ظروف الحياة, فالقول بجوازه مع الالتزام بالضوابط الشرعية قول وجيه, وهو مطلب حضاري, يمكن من خلاله نشر التاريخ والعلوم الإسلامية.
واستدلوا على تحريم تمثيل كبار الصحابة واستثنائهم من الجواز بالآتي :
- أن هذه الفئة من الصحابة قد بلغت درجة من السمو والشموخ المستفادين مما ثبت لهم شرعًا من العدالة والاختصاصات الذاتية التي لا توجد إلا فيهم، ولم تثبت إلا لهم، ومن ثم سيكون تمثيل أدوار حياتهم لونًا من الكذب الصارخ الذي لا يوجد له صارف، أو يتوافر له باب من أبواب التأويل والكذب محرم بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة- سلفًا وخلفًا- فلا يجوز فعله.
- إن قيام الممثل بأداء أدوار حياتهم- حال استحالة مساواته بهم أو اقترابه من منزلتهم- سوف تتضمن تطاولاً على مكانتهم العالية ومقاماتهم الرفيعة، وفى هذا إيذاء لهم، والإيذاء منهى عنه .
- إن تمثيل أدوار حياتهم- حال عدم مساواة الممثلين لهم مع شيوع الانحراف أو عدم الالتزام عند كثيرين منهم، أو في الوسط الذي يعملون فيه، مع إحسان الظن بهم على فرض صحة ما يشاع عنهم- سوف يؤدي إلى اهتزاز الصورة المستقرة فى أذهان الناس لتلك القمم الشامخة، وقد يؤدي ذلك إلى تشويه سيرتهم عند المشاهدين، وفي هذا مدعاة إلى عدم حبهم والانصراف عنهم مع أن المسلمين مأمورون- جميعًا- بحب صحابة رسول الله ومنهيون عن إساءة الظن بهم، أو التطاول على مقاماتهم.
- من الثابت أن أصحاب الشهرة من الصحابة الذين وردت أسماؤهم حصرًا يشتركون مع الرسل في حرمة الكذب عليهم ومن ثم عدم جواز تمثيل أدوار حياتهم؛ وذلك لوجوب اتباعهم والاقتداء بهم، ومن ثم كان لهؤلاء الصحابة ما للرسل فى حكم عدم جواز الكذب عليهم بتمثيل أدوار حياتهم؛ حيث لا يجوز تمثيل حياة الأنبياء أو الرسل – بأي وجه – لما فيه من الكذب عليهم، وقد توعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يكذب عليه بقوله: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) [البخاري (1391), ومسلم (4)]، وجميع الأنبياء والرسل في ذلك سواء، كما أن لغير الخلفاء الراشدين من العشرة المبشرين بالجنة حكم الخلفاء الراشدين الأربعة، ولآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ما للعشرة المبشرين بالجنة من المنزلة والمكانة التي تحرم الكذب عليهم بتمثيل أدوار حياتهم من باب أولى.
- إن جانب المفسدة في تمثيل أدوار حياة مشاهير الصحابة المقصودين بذلك الحكم راجح على جانب المفسدة؛ وذلك حال عدم قيام الداعي لارتياد هذا الأسلوب من بيان حياتهم وهو ملبد بتلك المفاسد، التي تصادر على المطلوب منها وتجعل عدمها خيرًا من وجودها، وفى غيرها- من وسائل التعبير عن حياة أولئك الأئمة الأخيار- ما يغني عنها كالكتابة الصحيحة، والمخاطبة الرصينة، والمحاورة الحكيمة، ومن ثم يكون التمسك بارتياد طريقها مع تلبسها بالمفاسد، وحال عدم وجود الضرورة الداعية لاستعمالها من وسائل التعليم التي هي أكثر منها صلاحًا وأتم فائدة نوعًا من الاعتساف الذي يجعل عدم الجواز واضحًا فيها.
الاتجاه الثالث: جواز تمثيل الصحابة مطلقا, وبه قال بعض المعاصرين, منهم الشيخ محمد رشيد رضا.
ودليل هؤلاء: عدم الدليل الشرعي الذي يمنع تمثيل الصحابة, أو أعمالهم الشريفة, بشرط الالتزام بأن يكون تمثيلهم بشكل يظهر محاسن ذلك الصحابي لأجل الاتعاظ بسيرته, ومبادئه العالية مع التحفظ والتحري بضبط سيرته دون إخلال بها من أي جهة كانت.
1. أحكام فن التمثيل في الفقه الإسلامي, محمد موسى الدالي، ص(193).
2. حكم التمثيل في الدعوة إلى الله ,عبد الله بن محمد آل هادي، ص(78).
3. الشريعة الإسلامية والفنون ,أحمد مصطفى القضاة، ص(381).
4. فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا, (6/2348).
5. فتاوى اللجنة الدائمة (3/268), الفتوى رقم (4723).
6. قرارات المجمـع الفقهـي الإسلامـي برابطة العالم الإسلامي، الدورة الثامنة 1405هـ.
7. قرارات المجمـع الفقهـي الإسلامـي برابطة العالم الإسلامي، الدورة العشرون، مكـة المكرمـة، 19-23 محرم 1432هـ الموافق 25-29 ديسمبر 2010م.
8. لقاء الباب المفتوح مع الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص(24).
9. مجلة الأزهر، العدد الصادر في محرم عام 1379هـ.
10.مجلة البحوث الإسلامية: (1/235)ٍ.