تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به
مسألة رقم 198
توحيد الأحكام القضائية.
تقنين الأحكام والإلزام بها
المقصود بذلك: أن يقوم ولي الأمر بتشكيل هيئة علمية للنظر في المسائل التي اختلف أهل العلم في حكمها، وترجيح ما تراه الهيئة راجحا، وتدوينه؛ من أجل إلزام القضاة للحكم به، فهل يسوغ هذا الأمر؟
إن موضوع تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به مما بحثته هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وخلصت الهيئة إلى أنه لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به؛ لأن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عاقبته؛ وذلك لأمور:
1- أن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى بالقول الراجح عند من اختاره يقتضي أن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقد، ولو في بعض المسائل، وهذا غير جائز، ومخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه الراشدين، ومن بعدهم السلف الصالح.
2- أن إلزام القضاة بأن يحكموا بما يدعى أنه القول الراجح فيه حجر عليهم، وفصل لهم في قضائهم عن الكتاب والسنة وعن التراث الفقهي الإسلامي، وتعطيل لهذه الثروة التي هي خير تراث ورثناه عن السلف الصالح.
3- وفي ذلك أيضاً مخالفة صريحة لما دل عليه كتاب الله تعالى من وجوب الرجوع فيما اختلف فيه من الأحكام إلى الكتاب والسنة، وإن عدم الرد إليهما عند الاختلاف ينافي الإيمان بالله تعالى، قال سبحانه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء: 59].
4- أن الإلزام بما يدون يفضي إلى نفس النتيجة التي وصل إليها من سبقنا إلى هذه التجربة من الدول الإسلامية المتأخرة، فقد جربوا هذا التقنين، وألزموا القضاة العمل به، فلم يأتهم بخير، ولم يرفع اختلاف القضاة في الأحكام، وإنما أدى بهم إلى الحكم بالقوانين الوضعية فيما عدا الأحوال الشخصية، وبعض العقوبات؛ فسدّاً لذريعة الفساد، ومحافظة على البقاء في التحاكم إلى شريعة الله، وإبقاء على إظهار شعار أمتنا الإسلامية يجب علينا أن نفكر في طريق آخر للإصلاح سليم من العواقب الوخيمة.
فإيجاد كتاب يشتمل على قول واحد هو الراجح في نظر من اختاره يكون موحد الأرقام مسلسل المواد لا يمكن أن يقضي على الخلاف، ويوجد الاتفاق في الأحكام في كل القضايا؛ لاختلاف القضاة في مداركهم وفي فهم المواد العلمية، ومدى انطباقها على القضايا التي ترفع لهم، ولاختلاف ظروف القضايا وما يحيط بها من أمارات، ويحف بها من أحوال.
وذهب بعض العلماء المعاصرين إلى جواز تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به، واستدلوا على ذلك بعدد من الأدلة، ومنها:
1- أن الإلزام بقول معين كان موضع الاعتبار والتنفيذ من الصدر الأول في الإسلام، ففي عهد عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد، ومنع القراءة بالأحرف الأخرى، وأحرق المصاحف المخالفة؛ وذلك تحقيقاً لمصلحة المسلمين، وحفاظاً على وحدة القرآن أن يكون موضع اختلاف، وكان الخير فيما فعل.
2- ضعف المستوى العلمي لغالب القضاة اليوم، وعدم قدرتهم على الاجتهاد لأنفسهم، ولا إدراك الراجح من مذهب من هم منتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في كتب المذهب.
3- ما نتج عن إطلاق الأمر للقاضي في تعيينه الراجح من المذهب أو إطلاق الأمر إليه في الاجتهاد في الحكم بما يراه من الاختلاف في الأحكام الصادرة من المحاكم، ومن الاختلاف في اتجاهاتها، مما كان لذلك أثره السيئ في نفوس كثير من الناس قد يكون منه اتهام القضاة في أحكامهم بالهوى والتشفي والاستهانة بالحقوق.
4- أن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة، وعلى الإلزام برأي معين؛ لقوة العلماء في ذلك العهد، وكفايتهم، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة، وأمنت الفتنة، فلم يكن ثمة حاجة إلى التدوين والإلزام به. أما في زمننا هذا وما قبله من أزمان بعد أن طرأ الضعف على الكيان الإسلامي فالحاجة ملحة إلى التدوين بالطريقة المقترحة، والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون؛ رعاية للمصلحة، وحفظاً للحقوق، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية.
5- حدوث مسائل جديدة ليس لها في الكتب الفقهية المعتمدة لدى القضاة ذكر، كالمعاملات المصرفية، ومسائل المقاولات والمناقصات، وشروط الجزاء، ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه، ونحو ذلك مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها، مما كان سبباً في إيجاد محاكم أخرى لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، وفي اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين.
• أبحاث وقرارات هيئة كبار العلماء (3/231-271).
• وجهة نظر لعدد من أعضاء هيئة كبار العلماء، ملحقة بأبحاث هيئة كبار العلماء (3/243-271).
• المدخل الفقهي العام (1/391).
• الفقه الجنائي المقارن، للدكتور أحمد موافي.
• القانون الإسلامي، لأبي الأعلى المودودي.