قسم الفقه الطّبيباب البنوك الطبية

بنوك الحليب

المسألة رقم 25

صورة المسألة

ظهرت بنوك الحليب في السبعينات من القرن العشرين، بعد ظهور أنواع من البنوك، كبنوك الدم، وبنوك الأعضاء وغيرها، ولم يقتصر الأمر على البلاد الأوروبية، بل امتدت لتصل إلى البلاد العربية أيضًا.
وبنوك الحليب هي: البنوك التي تحفظ فيها ألبان النساء التي فاضت عن حاجة أبنائهن، أو في حالة وفاة الطفل الرضيع، وبقي في الثدي لبن، فتحفظ حينها هذه الألبان الفائضة في ثلاجات معينة، تحت درجة حرارة 4%، ولمدة تتراوح بين 24 – 48 ساعة، ثم تتم معالجته بطريقة التبريد، بمدة أقل من المدة التي يحفظ بها الحليب المجفف، لمدة ثلاثة أشهر، حيث يوضع في أوانٍ معقمة، ويترك في درجات حرارة منخفضة، محتفظًا بنسب المواد الأولية فيه، من ثم يغلى عند الاستعمال، ويترك ليبرد، ويعطى بعدها للطفل.
والعادة في هذه البنوك أن تكون الألبان مختلطة غير متميزة.

حكم المسألة

اختلف العلماء في حكم إنشاء بنوك للحليب على اتجاهاتٍ ثلاث:

الاتجاه الأول:أن إنشاء بنوك للحليب الآدمي المختلط غير جائز، وقد صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، وقال به كثير من أهل العلم.

واستدل لهذا القول بأدلة كثيرة منها:

الدليل الأول: أن الرضاع من بنوك الحليب الآدمي المختلط ينشر الحرمة؛ لأنالتحريم في الرضاع يحصلبتحقق مقصوده، وهو وصول اللبن إلى الجوف، بشتى وسائله، سواء كان بالمص من الثدي، أو بالسعوط وهو: ما يصب في الأنف، أو بالوجور وهو:ما يصب في الحلق.

الدليل الثاني: انتشار الفوضى الناتجة عن الرضاع من هذه البنوك، إذ قد يتزوج الرجل بامرأة، كان قد رضع من لبن أمها، والجهالة وعدم أخذ الاحتياط في مثل هذه الأمور قد تؤدي إلى محظورات شرعية.

الدليل الثالث: أن الشرع أخذ بالظن الغالب في الرضاع، والرضاعة من بنوك الحليب قد تصل إلى الظن الغالب؛ لأن العملية تكون محصورة في عدد من النساء، وعدد من الأطفال المستفيدين، وفي الحديث أن عقبة بن الحارثt قال: تزوجتُ امرأةً، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: إني قد أرضعتكما، فأتيت النبي ﷺ فأخبرته، فقلت: إني تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتني امرأة سوداء، فقالت: إني قد أرضعتكما، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: إنها كاذبة، قال: (وكيف بها، وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك).أخرجه البخاري (ح 5104).

وجه الدلالة من الحديث: أنه مع كون الأمر مظنونًا، والصحابي لا يدري إن كان صدقًا أم كذبًا، إلا أن النبي ﷺ أمره أن يفارقها.

الدليل الرابع: سد الذرائع، ومنع التساهل في إعطاء الأحكام الشرعية.

 

الاتجاه الثاني: إنشاء بنوك للحليب الآدمي جائز، وهذا ما ذهب إليه بعض المعاصرين.

واستدل له بأدلة منها:

الدليل الأول:أن اللبن إن انفصل عن ثدي المرأة لا يترتب عليه التحريم، وهذا الانفصال متحقق في هذه البنوك، فلا يثبت فيها التحريم، وذلك لأن الرضاع المحرِّم الوارد في رواية مرجوحةٍ عند الشافعية، والرواية الثانية عن الإمام أحمد، هو ما اقتصر فيه على المص من الثدي، أما السعوط والوجور فلا يحرمان.

والحجة في قولهم بأن الرضاع المحرِّم هو ما اقتصر على المص من الثدي، هي:

أ- قوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) سورة النساء الآية: ٢٣.

ب- عن ابن عباس –رضي الله عنهما – أن النبي ﷺ قال(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).أخرجه البخاري (ح 2502).

ووجه الدلالة من الآية الكريمة والحديث: أنالآية والحديث جعلا الرضاعة والإرضاع والرُضَّاع فقط هي من أسباب تحريم النكاح.

ج-أن الشارع الحكيم جعل الأمومة أساس التحريم، وهي لا تتحقق من مجرد أخذ اللبن، وإنما من الامتصاص والالتصاق، الذي يظهر فيه حنان الأمومة، فهي الأصل والباقي تبع لها.

 

الدليل الثاني:أن التحريم بالرضاع، لا يثبت إلا بخمس رضعات مشبعات ومتفرقات، من امرأة واحدة بعينها، وهذا ما يصعب تحققه في الرضاع من هذه البنوك، فلا يثبت بها التحريم.

 

الدليل الثالث: أن من شروط تحريم لبن الرضاع أن تكون المرضعة فيه معينة ومعلومة، وهذا ما يستحيل تحققه في بنوك اللبن، فلا يترتب على الجهالة بالمرضعة أدنى تحريم؛ لانعدام العلم بمصدر التحريم الذي تنسب له الحرمة، وهو الأم المرضعة.

 

الدليل الرابع: أن شرط التحريم في الرضاع عند بعض الفقهاء يستلزم كون اللبن خالصًا غير مخلوط بغيره مطلقًا، وبنوك الحليب يختلط فيها اللبن عادة بغيره من الموائع كالماء؛لتحويله من التجفيف للسيولة، أو الدواء للحفظ، أو لبن امرأة أخرى، وكل ذلك يمنع نشر الحرمة في الرضاع من هذه البنوك.

الدليل الخامس: أن من طرق حفظ اللبن في البنوك تعريضه للنار الذي يعرف بنظام البسترة، ثم تبريده مرة أخرى، أو تسخينه بدرجات حرارة مرتفعة بتجفيفه، وتحويله إلى مسحوق ليخلط بالماء عند استخدامه مرة أخرى، والمعهود عند الفقهاء أن لبن الرضاع إن مسته النار يفقد صفته ولا يحرِّم.

الدليل السادس: أن الرضاع من هذه البنوك يتطرق إليه الشك، والشك لا تبنى عليه الأحكام الشرعية، كما أن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تنفى هذه الإباحة إلا بيقين.

 

الاتجاه الثالث في إنشاء بنوك الحليب: أنه لا يبحث في حكم إنشاء البنوك من حيث الجواز من عدمه، وإنما يبحث فيها من حيث الحكم الشرعي في نتيجة الرضاعة، وهذا ما مال إليه بعض العلماء المعاصرين.ودليلهم:

أن الشارع الحكيم لم يمنع من أن تتم الرضــاعة من امــرأة واحـدةٍ أو أكثر؛ لذا يجب البحث في نتيجة هذه الرضاعة وما يترتب عليها من أحكام.

المراجع

1. بنوك الحليب، د. حسان حتحوت، ندوة: الإنجاب في ضوء الإسلام، ط2، مطبوعات منظمة الطب الإسلامي، سنة:1403.
2. بنوك الحليب، د. خالد مذكور، ندوة: الإنجاب في ضوء الإسلام، ط2، مطبوعات منظمة الطب الإسلامي، سنة: 1403.
3. بنوك الحليب، الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، ندوة: الإنجاب في ضوء الإسلام، ط2، مطبوعات منظمة الطب الإسلامي، سنة: 1403.
4. البنوك الطبية البشرية وأحكامها الفقهية د. إسماعيل مرحبا، ط دار ابن الجوزي، ط1 سنة 1429هـ.
5. البنوك الطبية واقعها وأحكامها د. عبد الرحمن محمد أمين طالب بحث منشور بمجلة مؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة الإمام المجلد الثاني 1431هـ.
6. بنوك لبن الرضاع بين الحل والحرمة دراسة فقهية مقارنة، د. جمال مهدي محمود الأكشة، دار الجامعة الجديدة، مصر، 2008م.
7. مناقشات بحث: ” بنوك الحليب “، الشيخ عبدالله البسام، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، سنة: 1407، العدد:2، ج1.
8. بنوك الحليب، د.محمد علي البار، مجلةمجمع الفقه الإسلامي الدولي، سنة: 1407، العدد:2: ج1.
9. مناقشات بحث: ” بنوك الحليب “، الشيخ تقي العثماني، مجلةمجمع الفقه الإسلامي الدولي، سنة: 1407، العدد:2، ج1.
10. بنوك الحليب، الشيخ مصطفى الزرقا، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، سنة: 1407، العدد:2، ج1.
11. مناقشات بحث: ” بنوك الحليب “، د. يوسف القرضاوي، ندوة: الإنجاب في ضوء الإسلام، ط2، مطبوعات منظمة الطب الإسلامي، سنة: 1403.
12. بنوك الحليب، د. يوسف القرضاوي،مجلة المجمع الفقهي الدولي العدد2، 1407.

مسائل ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى