قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب العقوبات

بدائل السجن

مسألة رقم 139

العناوين المرادفة

-العقوبات البديلة عن السجن.
– الإلزام بالأعمال التطوعية في العقوبة التعزيرية.
-الإلزام بأعمال الخدمة الاجتماعية في العقوبة التعزيرية.

صورة المسألة

لقد كثرت الوقائع الموجبة للعقاب, وأصبح إيقاع العقوبة متعلقاً بعدّة أطراف, فيتعلق بالمحكوم عليه، ومن يعول, وبالمجتمع، ومن يخالط, وبالدولة، وما تنفق.
كما جاءت الدعوة الصريحة لإيجاد مراجعاتٍ للعقوبات التعزيرية الشهيرة فيما يحقق الهدف من دفع جماح الخطيئة بأسهل الطرق وأسلم الأحكام وأيسرها في التنفيذ، فقد تحركت المنظمات الدولية, والجهات البحثية العلمية والمؤسسات القضائية, والجهات التنفيذية لتفعيل أنواعٍ من العقاب تخرج عن دائرة العقوبة بالسجن ونحوه, فأُعدت الأنظمة والدراسات لتقرير بدائل عقابية متنوعة تطرح أفقاً واسعاً لمفهوم العقاب, يمكن إنزاله في المجتمعات لدفع الجريمة وحصر آثارها السلبية, وقد قرر علماء الأمة سعة النظر في تقرير العقوبات التعزيرية, لأن العقوبات التعزيرية بجميع أنواعها يرجع أمر تعيينها وتقديرها وتقريرها إلى اجتهاد القاضي المستند إلى النظر المصلحي الذي يتناسب مع الواقعة والفاعل والمجتمع والزمان والمكان.
ولما أضحى السجن والجلد عقوبتين لا تخطئهما الأحكام التعزيرية، وبعد أن ظهر للناس جلياً أن كثرة السجن لها الأثر السلبي على السجين وأسرته، وعلى المجتمع برمته، كما استحق السجن أن يكون المعهد التدريبي الاحترافي الأول لفنون الإجرام بأنواعها. كما أظهرت الإحصاءات ارتفاع نسبة العود للسجن، ظهرت في مقابل ذلك المناداة العامة بالدعوة إلى التوسع في إيقاع العقوبات البديلة عن السجن والجلد، ووجدت دراسات وأنظمة تقرر هذه البدائل وتؤصلها وتدعو لها، إلا أن هناك نوعاً من أنواع هذه البدائل ألا وهو (الإلزام بالأعمال التطوعية) تتصل بعض صوره بالجانب التعبدي المحض، لذا نشأ الإشكال في صلاحيته ليكون عقوبةً تعزيريةً بديلةً عن السجن أو الجلد، حيث إن من المعلوم أن التعزير: عقوبةٌ غير مقدرةٍ شرعاً تجب حقاً لله أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حدّ ولا كفارة.

حكم المسألة

التعزير شرعاً يرجع إلى أحد أربعة أمورٍ لا تخرج عن مقاصد العقوبات في الشريعة، وهي:

1-الإصلاح والتأديب.

2-الزجر والردع.

3-إرضاء المجني عليه ورد حق المجتمع من الجاني.

4-تحقيق العدالة.

ويرجع مأخذ التعزير شرعاً إلى اجتهاد من له سلطة التعزير، فكلام أهل العلم متواردٌ على أن التعزير اجتهاديٌ لا توقيفيٌ، وأن ولي الأمر مخيرٌ فيه بحسب الأصلح([1]).

فالاجتهاد في العقوبات التعزيرية منوطٌ بولي الأمر، إلا أن القول بأن العقوبة التعزيرية راجعةٌ إلى اجتهاد القاضي لا تعني الاجتهاد المطلق؛ لأنه يجب للقاضي مراعاة بعض الأمور المحرمة في العقوبة، ومن ذلك:

1- التمثيل بالمعزَّر به.

2- الاستخفاف بالإنسان وإهدار الآدمية، ومن صوره ضرب الوجه، وكشف العورة، والضرب على القفا، والشتم.

3- ألا يكون التعزير بالمنع من أمرٍ ضروريٍ كالمنع من الأكل أو الشرب الذي يقيم حياته، أو المنع من الوضوء أو الصلاة.

4- ألا يكون في التعزير ضررٌ فاحشٌ بالمعزَّر أو بغيره كالضرب المبرح، أو منعه من جماع زوجته.

ولكن هل هذا الاجتهاد من القاضي يختص باختيار إحدى العقوبات المحددة التي وردت بها الأدلة الشرعية، ولا يجوز إحداث عقوباتٍ تعزيريةٍ أخرى – ومنها الإلزام بالأعمال التطوعية – ولو تحققت بها الحِكم والمقاصد نفسها؟، أو لا يختص؟، فيجوز إحداث عقوباتٍ أخرى إذا أمكن أن تتحقق بها تلك الحِكم والمقاصد؟.

إن كلام الفقهاء المتقدمين والمعاصرين في هذا الباب يدل إجمالاً على عدم اختصاص الاجتهاد بالاختيار من العقوبات التي ورد بها الدليل، مما يفهم منه من حيث العموم عدم المنع من الاجتهاد في إيجاد عقوباتٍ أخرى يمكن أن يتحقق بها حِكم ومقاصد تلك العقوبات أو تزيد كما هو الحال في الإلزام بالأعمال التطوعية.

ولذا بنى بعض الباحثين المعاصرين على هذا مشروعية الزيادة بحيث يمكن للقاضي معاقبة الجاني بعقوباتٍ أخرى تتحقق بها الحكم والمقاصد العامة للتعزير وفق ضوابط معينة، ومنها الإلزام بالأعمال التطوعية، وهذا هو المفهوم من عموم كلام عامة الفقهاء المتقدمين، وهو المفهوم من كلام بعض أصحاب الفضيلة القضاة المعاصرين، إلا أن هذا القول مقيّدٌ بجملةٍ من الضوابط، وهي:

1- ألا تكون العقوبة هنا مما يترتب عليه إهانة للكرامة الإنسانية.

2- ألا يترتب على هذه العقوبة مفسدةٌ أعظم منها، كأن تكون مما يؤدي إلى الوفاة، أو إتلاف عضو أو ذهاب منفعته.

3- أن تكون هذه العقوبة بقدر الجناية، ومتكافئة معها.

4- أن يتناسب العمل المعاقَب به مع نوع الجناية التي ارتكبها الجاني.

5- أن يخصص تطبيق عقوبة الإلزام بالأعمال التطوعية بالجرائم الصغيرة التي تحصل من صغار السن.

6- أن يراعى أن تكون العقوبة متضمنةً تكليف الجاني بالعمل في المهنة أو الحرفة التي يجيدها.

7- أن تصدر العقوبة بحكمٍ قضائيٍ مكتسبٍ للقطعية، ويتم تنفيذها تحت إشراف قضائي.

8- ألا يتعدى أثر العقوبة إلى غير الجاني.

9- أن يتم التكامل التعاوني بين الجهات ذات العلاقة باقتراح هذا النوع من العقوبات وإصدارها وتنفيذها، وهي القضاء، والادعاء، وجهات التنفيذ، ومقارّ التنفيذ، وجهات الدراسة والبحث، وجهات التنظيم وإصدار التعليمات.

10-ألا يكون التعزير هنا بالإلزام بالعبادات المحضة القاصرة، ومفهومه اقتصار التعزير بالإلزام بالأعمال التطوعية على الأعمال الخدمية ذات النفع المتعدي.

11-أن يراعى في العقوبة التعزيرية بالإلزام بالأعمال التطوعية تحقق المقاصد الشرعية من العقوبة التعزيرية.

12-صدور التنظيمات القضائية ممن له سلطة التنظيم.

وقد استند أصحاب هذا الاتجاه على استقراء الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة وقواعدها العامة مما يمكن أن يستند إليه في القول بمشروعية الأخذ بهذه العقوبة.

ومن هذه الأدلة:

الدليــل الأول: ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله ﷺ عن الوصال، فقال له رجال من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل! فقال رسول الله ﷺ: «أيكم مثلي! إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم رأوا الهلال، فقال: «لو تأخر لزدتكم» كالمنكّل بهم حين أبوا. ]رواه البخاري(6851)، ومسلم (1103)[.

وهذا الحديث يعد أصلاً في التعزير بالإلزام بالأعمال التطوعية التي هي من قبيل العبادات المحضة القاصرة.

الدليــل الثاني: ما فعله النبي ﷺ مع بعض أسارى غزوة بدر الكبرى من المشركين حيث طلب منهم تعليم أبناء المسلمين الكتابة بدلاً من دفع الفداء المالي.

فعن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما– قال: كان ناسٌ من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداءٌ، فجعل رسول الله ﷺ فداءهم أن يُعلّموا أولاد الأنصار الكتابة، قال: فجاء غلام يوماً يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، فقال: يطلب بذَحْلِ –أي ثأر – بدر، والله لا تأتيه أبداً([2]).

فهذا الحديث وإلم يكن صريحاً في الدلالة على خصوص المسألة إلا أنه يفيد أن استبدال العقوبة المالية – وهي مبلغ الفداء هنا – بعمل يخدم فئة من المجتمع- وهو تعليم الكتابة للصغار – له أصلٌ في الشريعة من فعل النبي ﷺ، فلا مانع -بناءً عليه- من التعزير بذلك وأمثاله إذا كان فيه مصلحة.

الدليل الثالث: الأخذ بالقاعدة المعروفة في الشريعة وهي: جلب المصالح وتحصيلها ودرء المفاسد وتقليلها، فهذه القاعدة العامة تنطبق على العقوبات التعزيرية التي وردت بعينها في النصوص الشرعية وغيرها كالإلزام بالأعمال التطوعية، ومن المصالح المترتبة على التعزير بالإلزام بالأعمال التطوعية:

1- أن استبدال الأعمال التطوعية بالسجن سيضع حداً لما يحصل في كثير من السجون من المفاسد المترتبة على خلط السجناء مع بعضهم مع الاختلاف في نوع الجريمة، وخاصة فئة الأحداث، حيث تكتسب المهارات في الإجرام وطرقه.

2- تدريب الجاني على العمل عموماً وتقبّله له، مما يؤدي إلى رفع همته وانتشال نفسيته التي قد تكون محبطة نتيجة البطالة.

3-تدريب الجاني على العمل التطوعي بخصوصه، وإكسابه المهارة اللازمة لذلك، والتقبل النفسي لمثل هذه الأعمال.

4-دمج الجاني بالمجتمع حال خدمته له بالأعمال التطوعية بدل عزله بالسجن أو النفي أو نحو ذلك.

5- زجر وردع سائر أفراد المجتمع عن ارتكاب الجريمة.

6- تخفيف الازدحام الحاصل في كثير من السجون في كثير من الدول.

7- الحد من الأعباء المالية التي تتحملها الدول نتيجة تنفيذ عقوبة السجن التي تعد الأكثر تطبيقاً كما سبق.

الدليل الرابع: القياس على إطعام عدد من المساكين في بعض الكفارات كإطعام ستين مسكيناً في كفارة الجماع في نهار رمضان، وفي كفارة الظهار، وإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم في كفارة اليمين.

ووجه القياس: أن كلا الأمرين إلزامٌ بخدمة فئةٍ محتاجةٍ من المجتمع وهي محلٌ للتطوع، نتيجة الوقوع في مخالفةٍ شرعيةٍ، وهذا وإن كان حكماً من الله – تعالى – كفارةً للمعصية فإن فيه معنى العقوبة.

الدليل الخامس: أنه يتحقق بالتعزير بالإلزام بالأعمال التطوعية جميع الحِكم التي شرع من أجلها التعزير كما يتحقق بالعقوبات الأخرى كالسجن والضرب والتشهير ونحوها، ومنها تأديب وزجر وردع الجاني وغيره، وإصلاحه وتهذيبه، ورد حق المجتمع، بل ويزيد عليها بتحقيق مصالح كثيرة أخرى كما سبق بيانها، وإذا كان الأمر كذلك فما المانع من المعاقبة به؟.

وإذا كان قد تقدم لنا أن كلام الفقهاء المتقدمين والمعاصرين في هذا الباب يدل إجمالاً على عدم اختصاص الاجتهاد بالاختيار من العقوبات التي ورد بها الدليل، فإنه يحتمل أن يوجد من يقول إن: الاجتهاد يختص بالاختيار من بين العقوبات التعزيرية التي حددها الشارع بموجب الدليل، ويستند في ذلك إلى قاعدة:«لا جريمة ولا عقوبة في التعزير بغير نص»، ويوضح هذا أن الشريعة قد نصت على جرائم التعزير وعقوباتها، وعينت الجرائم وحددت العقوبات تحديداً دقيقاً، بحيث لا يستطيع القاضي أن يعاقب على فعلٍ لم تحرمه الشريعة، ولا يستطيع القاضي أن يعاقب بغير العقوبات المقررة للتعازير، ولا يخرج على حدودها، وأن نصوص الشريعة تكفَّلت ببيان الجريمة والعقوبة، وأن سلطة القاضي منحصرة في تطبيق النص على الواقعة المعروضة عليه، فإن انطبق وقع على الجاني العقوبة، وإن كانت الشريعة قد أعطت القاضي سلطة واسعة في اختيار العقوبة التي يراها ملائمة من بين عقوباتٍ مقررة للجريمة.

كما أنه قد يوجد من يمنع من التعزير بالإلزام بالأعمال التطوعية ويبني رأيه على إشكالٍ حول اتخاذ الأعمال التعبدية – كالأعمال التطوعية، ومنها صيانة المرافق العامة وتنظيفها كالمساجد، والعمل في الجمعيات الخيرية، وخدمة المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، والتعاون مع مكاتب الدعوة وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم ونحوها – عقوباتٍ تعزيرية؛ لكون ذلك يخالف المقصد الذي هدف إليه الشارع من العبادات، فتتحول العبادات إلى عقوبات، ويظهر هذا الإشكال بصورةٍ أكثر حينما تتجه العقوبة إلى الإلزام بما هو من قبيل العبادات المحضة ذات النفع القاصر على الفاعل كالذِّكر وقراءة القرآن والصلاة والصوم ونحوها مما يحتاج إلى استحضار نيةٍ التعبد، فتمتهن هذه العبادات بتفريغها من معناها الذي شُرعت لأجله، إذ إن الجاني في هذه الحالة سيستحضر ما يضاد نية العبادة عند فعله لها؛ لكونه يفعلها مكرهاً على سبيل العقوبة.


([1]) مجمع الأنهر1/610، والجواهر الثمينة 3/1178، والإنصاف 10/249.

([2]) رواه أحمد (2216).

المراجع

• التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة.
• التعزير في الشريعة الإسلامية، د. عبد العزيز عامر.
• التعزير والاتجاهات الجنائية المعاصرة، د.عبدالفتاح خضر.
• العقوبات البديلة في الفقه الإسلامي، د.محمد القاضي.
• فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
• الإلزام بالأعمال التطوعية في العقوبة التعزيرية، ملخص ندوة أقامها مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة، وشارك بها: د. ناصر بن إبراهيم المحيميد (القاضي بمحكمة التمييز بالرياض). أ. د. عبدالعزيز بن محمد الحجيلان (أستاذ الدراسات العليا في جامعة القصيم). محمد بن عبدالعزيز آل عبدالكريم (قاضي المحكمة العامة بالمويه).
• التعزير بالخدمة الاجتماعية- أ. د. عبدالعزيز الحجيلان، و د. إبراهيم الميمن، من إصدارات مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة.
• مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد، المعروف بشيخي زاده (1/610).
• الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، عبد الله بن هجم بن شاسي ( 3/1178).
• الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علي بن سليمان المرداوي (10/249).

مسائل ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى