العقوبة بالتشهير في الوسائل الإعلامية الحديثة
مسألة رقم 310
1. التشهير من الحاكم.
2. التعزير بالتشهير في وسائل الإعلام.
ذكر الفقهاء المتقدمون – رحمهم الله تعالى – جواز التشهير بالجاني في بعض الجرائم التعزيرية إذا كان ذلك أقوى في ردع السفلة عن المنكرات بما يحقق سلامة المجتمع من شرهم.
فهل يجوز للحاكم استعمال وسائل الإعلام الحديثة في التشهير بالجاني مع سرعتها في الانتشار؛ ليكون ذلك أقوى في ردع مرتكبي المنكرات، والمحافظة على سلامة المجتمع أم أنه ينافي ما تقرر من اعتبار الكرامة الإنسانية في التعزير؟
أولا: يجوز للحاكم معاقبة الجاني بتشهيره في وسائل الإعلام إذا رأى مناسبة العقوبة للجناية وتأثيرها في تحقيق الردع، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء من حيث الجملة، واستدلوا على ذلك بأدلة من أبرزها:
- قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 2].
- قصة ابن اللتبية لما استعمله النبي – ﷺ– في جمع صدقات بني سليم، ولما جاء حاسبه، قال: “هذا مالكم وهذا هدية”. فقال رسول الله -ﷺ-: (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا) ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته…) [أخرجه البخاري برقم: (6979) 9/28، ومسلم برقم: (1832) 3/1463].
يقول ابن حجر – رحمه الله تعالى – : “…وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به…”([1])
سئل فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في عنق السارق أمن السنة هو؟ قال:”أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها، فعلقت في عنقه”. [أخرجه الترمذي برقم: (1447) 4/51، وضعفه الألباني].
- روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: “أنه أمر بشاهد الزور أن يسخم وجهه، ويلقى في عنقه عمامته، ويطاف به في القبائل، ويقال: إن هذا شاهد الزور، فلا تقبلوا له شهادة”. [أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم: (15394) 8/327].
- روي عن عثمان – رضي الله عنه – : “أنه عاقب شخصا كان يقطع الدراهم بجلده ثلاثين سوطا، وشهّر به”([2])
- ما روي عن علي – رضي الله عنه- :”أنه أقر عنده سارق مرتين فقطع يده وعلقها في عنقه”. [أخرجه النسائي برقم: (7434) 7/43، والطحاوي في شرح معاني الآثار برقم: (4980) 3/170].
- ولأن الجاني أسقط كرامته بارتكاب جرائم السفلة؛ فكان التشهير به أدعى للزجر.
يقول الماوردي: “للأمير إذا رأى من الصلاح في ردع السفلة أن يشهرهم، وينادي عليهم بجرائمهم ساغ له ذلك”([3]) .
ثانيا: من يستحق التشهير من أهل المنكرات
وممن نص الفقهاء على جواز التشهير بهم:
- أهل الغش والتدليس؛ وذلك لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي –ﷺ-مرّ بصبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، قال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟) قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس منا) [أخرجه مسلم برقم: (102) 1/99].
وجه الدلالة: أن في هذا التوجيه نوع من التعزير بالتشهير ضرورة أن السوق يكثر من يرتاده من الناس؛ فيكون من لازمه التشهير به في مكان عام.
- التشهير بالموظف الخائن للأمانة العامة اعتبارا بحديث ابن اللتبية الأسدي المتقدم.
- التشهير بمن يمارس عملا خسيسا يخل بكليات الدين وقيمه المثلى؛ وذلك مثل: من يقوم بالقوادة: وهي السعي بين الرجل والمرأة لتمكينهما من الفجور.
ثالثا: من لا يشهر بهم.
إذا قلنا: بجواز التشهير من حيث الجملة فإن هذا الحكم لا يطرد في جميع الصور نظرا إلى خصوصية بعض الحالات التي قد يترتب على التعزير بالتشهير فيها مفسدة أعظم، ومن أبرزها:
- ذوو الهيئات إذا ارتكبوا ما يوجب التعزير يسقط عنهم حق التأديب حماية للمروءات؛ وذلك لحديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود) [أخرجه أحمد برقم: (25474) 42/300، والنسائي في السنن الكبرى برقم: (17229) 8/465، وصححه الألباني].
- الوالي العام إذا أساء بما يوجب التعزير في الشرع يجب نصحه بما يليق بمقامه حفاظا على هيبته؛ وذلك لما ثبت عن النبي –ﷺ-: (من أراد أن ينصح السلطان بأمر، فلا يبد له علانية…) [أخرجه أحمد في المسند برقم: (15333) 24/49].
- المرأة إذا تجاوزت حدود الله بما يلزم منه التأديب لا تشهَّر؛ لأن العقوبات مبنية على زجر العامة، والمرأة يبنى أمرها على العفاف والستر؛ فكان التشهير بها يفضي إلى المفاسد، ويخل بمقصود الشارع.
رابعا: ضوابط التعزير بالتشهير، ومن أبرزها:
- أن لا تتضمن عقوبة التشهير مخالفة للشرع؛ كالتشهير بحلق اللحية أو الوشم بالنار.
- أن يكون الشارع قد رتّب عقوبة على جنس الجريمة؛ مثل: مشروعية معاقبة السارق حدا أو تعزيرا، ففي حال كونه تعزيرا يجوز للحاكم أن يعاقب عليه بالتشهير كما في سرقة الحقوق الأدبية.
- ملاءمة العقوبة للجرم التزاما بمبدأ العدالة المقررة في تنزيل العقوبة التعزيرية على الجاني.
- مراعاة المآلات بالموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فالرسول – صلى الله عليه وسلم – ترك إقامة حد القذف على عبد الله بن أبي بن سلول في حادثة الإفك مراعاة للمآلات.
1. الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد البغداء الماوردي الشافعي (ت 450 هـ).
2. بدائع الصنائع لعلاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي
(ت 587هـ).
3. الذخيرة، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت684 هـ).
4. ضوابط تقدير العقوبة التعزيرية، للشيخ عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين، منشور في المجلة القضائية – العدد الأول- محرم 1432هـ، ص66.
5. العقوبة بالتشهير في الفقه الإسلامي، د. سعد خليفة العبار، المجلة الليبية العالمية، كلية التربية – جامعة بنغازي، العدد: 26 أغسطس عام: 2017 م.
6. العقوبة بالتشهير في الفقه الإسلامي، علي صبحي كامل السليحات، ماجستير بكلية الدراسات العليا بالجامعة الأردنية، عام: 2001 م.
7. فتح الباري لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي (ت 852 هـ)
8. المغني لأبي عبدالله أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي(ت 620هـ).