التعويض عن الضرر الأدبي الناتج عن المماطلة في الديون
مسألة رقم 38
قد يتأخر المدين في وفاء دينه، ويطالبه الدائن فيماطل في الوفاء، فيلحق بالدائن أضرار معنوية بسبب ذلك، من صورها ما يلي:
1- أن يكون الدائن من أشراف الناس الذين يغض من قدرهم وينقص من مكانتهم التردد على المحاكم، ومراكز الشرط، وجهات التنفيذ الأخرى.
2- ضرر الدائن من كثرة الاتصالات على المدين، والذهاب إليه، وملاحقته، وانتظاره، وما ينتج عن ذلك من هم وحزن، وخوف من ضياع الحق، مما قد يعود بالضرر الصحي على بدنه.
3- ضرر بما يلحق سمعة الدائن عند الناس إذا علموا بمطالبته للمدين، إذ قد يظنون أنه ظالم بالمطالبة، وذو قسوة وغلظة على مدينيه الذين يدعون الإعسار، ولا يعلمون حقيقة ملاءتـهم.
4- ضرر عدم طمأنينة العملاء الجدد للدائن أو للشركة الدائنة، إذا كانت تعاني من ديون متعثرة لدى عملاء آخرين مدينين، فيحمل هذا على نقدها عبر وسائل إعلامية مما يعود على استثماراتـها وإقبال الناس عليها بالضعف.
فهل يستحق المتضرر بمثل هذه الأضرار الأدبية المعنوية تعويضاً مالياً عن ضرره أم لا؟
الفرع الأول: تحرير محل النزاع في الضرر الأدبي.
الضرر الأدبي: إما أن يكون ضرراً أدبياً محضاً، أو ضرراً أدبياً غير محض، فإن كان الضرر أدبياً غير محض أي ينطوي عليه ضرر مادي كمن كُذِب عليه ظلماً، فساءت سمعته، ومن ثَمَّ فُصِلَ من عمله لسوء السمعة، أو حُرِمَ من ترقيته بناء على ذلك، فهذا النوع له حكم التعويض عن الضرر المادي الفعلي.
ومحل الكلام هو في النوع الآخر، وهو الضرر الأدبي المحض الذي لا يترتب عليه ضرر مادي.
الفرع الثاني: حكم التعويض المالي عن الضرر الأدبي.
اختلف المعاصرون في حكم التعويض عن الضرر الأدبي على قولين:
القول الأول: عدم جواز التعويض المالي عن الضرر الأدبي (المعنوي).
وهذا مقتضى قول عامة الفقهاء السابقين، واختارته بعض المجامع والمجالس الشرعية، وقال به بعض المعاصرين.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 109/(3/12) بشأن موضوع الشرط الجزائي ما نصه: “خامساً: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي…..ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي”.
وقال الشيخ علي الخفيف: ” ليس فيهما –أي الضرر الأدبي والمعنوي- تعويض مالي على ما تقضي به قواعد الفقه الإسلامي، وذلك محل اتفاق بين المذاهب”([1]).
وقال الشيخ مصطفى الزرقا: “خلاصة القول: أننا لا نرى مبرراً استصلاحياً لمعالجة الأضرار الأدبية بالتعويض المالي، ما دامت الشريعة قد فتحت مجالاً واسعاً لقمعه بالزواجر التعزيرية”([2]).
القول الثاني: جواز التعويض المالي عن الضرر الأدبي (المعنوي).
وقال به بعض المعاصرين، وهو ما عليه العمل في القوانين الوضعية المعاصرة.
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل المانعون للتعويض المالي عن الضرر الأدبي المحض بما يلي:
الدليل الأول: الضرر الأدبي المعنوي ليس فيه خسارة مالية، فلا يمكن تقديره بالمال بحال، والتعويض المالي لا يكون إلا عن ضرر مالي واقع فعلاً يمكن تقديره بالمثل أو بالقيمة، لذا شرع في مقابل مال فائت أو بدلاً عن قصاص تعذر استيفاؤه؛ لفقد شرط القصد في الجناية، أولعفو المجني عليه، أو وليه، ونحو ذلك، إذ هي أشياء محسوسة يمكن تقديرها، وفي الغالب يترتب عليها خسارة مالية، أما الضرر الأدبي فيمكن إزالته بالتعزير والعقوبة الرادعة، فيقتصر عليها.
قال الشيخ علي الخفيف: ” ليس فيهما – أي الضرر الأدبي والمعنوي- تعويض مالي على ما تقضي به قواعد الفقه الإسلامي، وذلك محل اتفاق بين المذاهب، وأساس ذلك فيهما أن التعويض بالمال يقوم على الجبر بالتعويض، وذلك بإحلال مال محل مال فاقد مكافئ لرد الحال إلى ما كانت عليه، إزالة للضرر، وجبراً للنقص، وذلك لا يتحقق إلا بإحلال مال محل مال مكافئ له ليقوم مقامه ويسد مسده، وكأنه لم يضع على صاحب المال الفاقد شيئاً، وليس ذلك بمتحقق فيهما “([3]).
وقال الشيخ مصطفى الزرقا: ” مبدأ التعويض المالي عن الأضرار الأدبية له محذور واضح، وهو أن مقدار التعويض اعتباطي محض لا ينضبط بضابط، بينما يظهر في أحكام الشريعة الحرص على التكافؤ الموضوعي بين الضرر والتعويض، وهذا متعذر هنا، وكثيراً ما نسمع فنندهش في أخبار الدعاوى والأقضية الأمنية أرقاماً بالملايين لقاء مزاعم أضرار أدبية في منتهى التفاهة”([4]).
الدليل الثاني: أن أبرز صور الضرر الأدبي المعنوي القذف، وشرع فيه الحد ثمانون جلدة، وهي عقوبة بدنية زاجرة، ولذا لا يجوز الصلح عنه بمال؛ إذ لا يحتمل المعاوضة، لأن التعويض يخرجه عن موضوعه، مع أن القذف حق خالص للمقذوف، ومثل القذف غيره من الأضرار المعنوية فلا تعوض بالمال.
الدليل الثالث: أن الضرر الأدبي المعنوي لا يجبره التعويض المالي، فهو يجحف في حق الفقير، ولا يردع الغني، أما العقوبة البدنية: فهي زاجرة للمعتدي فقيراً كان أم غنياً، ولذا شرع لهذا الضرر ما يناسبه من الحد، والتعزير الزاجر، والتأديب الرادع، وهو كافٍ في شفاء غيظ المتضرر، وإزالة ضرره، وزوال العار عنه، وإعادة الاعتبار له.
الدليل الرابع: عمل أهل العلم على عدم تعويض المتضرر ضرراً أدبياً معنوياً غير مادي، فقد نصوا على تنكيل من آذى غيره، وأن الضمان لا يجب إلا في ما كان مثلياً أو قيمياً.
أدلة القول الثاني: استدل المجيزون للتعويض عن الضرر الأدبي المحض بما يلي:
الدليل الأول: قياس الضرر الأدبي المحض على الألم، فكما أن التعويض المالي يُشرع في مقابل الألم فكذلك يُشرع التعويض المالي مقابل الضرر الأدبي، إذ إن الضرر الأدبي ألمٌ.
وقد ورد عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة في الشجة إذا عادت فالتحمت بأن فيها أرش الألم.
فأبو يوسف قرر التعويض المالي مقابل الألم، والألم ضرر أدبي، وعليه فيقاس على الألم غيره من الأضرار الأدبية المحضة، فيجوز التعويض المالي عن الضرر الأدبي.
الدليل الثاني: أن الواجب في الضرر المعنوي الأدبي هو التعزير، ومن أنواعه: التعزير بالمال، وهو مقرر شرعاً، والتعويض بالمال عن الضرر الأدبي لا يخرج عن التعزير بالمال المقرر شرعاً.
الفرع الثالث: التعويض عن الضرر الأدبي المحض الناتج عن المماطلة في الديون.
رجح بعض الباحثين القول بعدم التعويض المالي مقابل الضرر الأدبي، وعليه فإن ما يترتب على المماطلة من ضرر أدبي لا تعويض فيه، لما يلي:
أولاً: عدم تقوم هذا الضرر، إذ إن شروط التعويض عن الضرر أن يكون متقوماً، أي يمكن تقويمه بما يعادل الضرر، ولا يمكن تقويم ضرر المطل الأدبي.
ثانياً: أن الديون يتشدد فيها مالا يتشدد في غيرها؛ منعاً للوقوع في الربا، فيمنع التعويض عن الضرر الأدبي في المماطلة في الديون؛ سدّاً للذريعة.
ثالثاً: أن صاحب الحق داخل في عقد المداينة على بصيرة من أمره، وهو يدرك احتمال وقوع مطل أو إفلاس ونحوه، ويمكنه أن يحتاط لنفسه بما شاء من التوثيقات التي تحفظ له حقه، فإن فرط فما لحقه من ضرر فبسبب تقصيره، فلا يتحمله المماطل، وغالباً ما يزيد الدائن في ثمن سلعته المؤجل بما يطمعه في دخول تلك المخاطرة، وهذا واقع أكثر المؤسسات المالية المتعاملة بعقود المداينات؛ إذ ترفع من هامش الربح لتوقعها مثل هذه الأضرار الحقيقية والأدبية.
علماً بأن هذه الأضرار المادية والمعنوية لا تذهب هدراً على من وقعت عليه بل يتحملها المماطل في الآخرة ما لم يتحلل من أصحابـها في الدنيا، وقد ذكر بعض الفقهاء في كتاب الغصب: أن ألم منع المال عن صاحبه لا يزول إلا بالتوبة، ومثله المماطل.
ويؤيده أن مطل الغني ظلم، والمماطل ظالم، والواجب على الظالم أن يسعى في التخلص من الظلم في الدنيا قبل أن يحاسب عليه في الآخرة.
وإذا بادر المماطل بتقديم زيادة مالية على أصل الدَّين عند السداد، وهي غير مشروطة عليه في العقد أو بعده، ولم تفرض عليه بحكم أو إلزام، و لم يجر بـها عرف أو تواطؤٌ عليها، بل بذلها من تلقاء نفسه وباختياره، فإنه لا مانع شرعاً من قبول هذه الزيادة، إذ تعتبر هذه الزيادة من حسن القضاء وتطييب القلب، وهي من الدائن لطلب رفع الظلم الواقع منه بالمطل، ولزوال الإثم بسبب حبسه لمال المضرور بغير حق.
وجاء في معيار المدين المماطل المعتمد من المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ما نصه: ” لا مانع من قبول ما يقدمه المدين المماطل عند السداد من زيادة على الدَّين على أن لا يكون هناك شرط مكتوب، أو ملفوظ، أو ملحوظ، أو عرف، أو تواطؤ على هذه الزيادة “.
([1]) الضمان في الفقه الإسلامي، لعلي الخفيف، ص 45.
([2]) الفعل الضار للزرقا، ص124.
• المماطلة في الديون (رسالة دكتوراه ـ الفقه ـ كلية الشريعة)، د. سلمان الدخيل (411) فما بعدها.
• التعويض عن الضرر الأدبي للدهمشي ص (8).
• النظرية العامة للالتزام لجميل شرقاوي ص (484).
• المسؤلية المدنية، محمد شلتوت ص (35).
• نظرية الضمان، د. محمد فوزي فيض الله ص (92).
• نظرية الضمان، د. وهبة الزحيلي ص (54).
• الضمان في الفقه الإسلامي، لعلي الخفيف، ص (45).
• الفعل الضار للزرقا ص(45).