اعتبار التشريح الطبي في الإثبات
في بعض الأحيان قد يقتل شخص آخر إما بسلاح، أو بضربه بمثقل، أو بخنقه، أو غير ذلك، ثم ينكر قتله، أو يدعي أن موته كان طبيعياً، وحينئذٍ يضطر المحقق أو القاضي إلى طلب تشريح الجثة؛ للتأكد من سبب الوفاة، ولا شك أن تشريح الجثة العائدة لمعصوم محرم الدم فيه هتك لحرمة ذلك الميت، ولكن قد تدعو الحاجة إلى مثل هذا الفعل، فهل مثل هذا الفعل سائغ شرعاً، وهل لنتيجة هذا التشريح أثر في الحكم على المتهم؟
إن التقارير الطبية المشتملة على نتائج تشريح الجثث تعتبر من القرائن القوية التي يستفيد منها القضاة والمحققون، ولا سيما إذا كانت صادرة من الأطباء الثقات الذين عرفوا بإتقانهم وخبرتهم في مجال الطب الشرعي، وكثيراً ما يكون لهذه التقرير أثر واضح في نفي التهمة عن المتهم، أو في تقوية التهمة ضده.
فمثلاً لو أن رجلاً ضرب آخر عدة ضربات على وجهه، ثم سقط المضروب على الأرض بعد أن اصطدم بحجر أو شيء صلب ملقى على الأرض ثم مات، وادعى أولياء الميت أن قاتله هو من ضربه، وطالبوا بالقصاص، ونفى المدعى عليه كون الموت حصل بسبب ضربه، فهنا سيكون للتشريح ونتائجه أثر واضح في تحديد مسار القضية، فإذا ظهرت نتائج التشريح تفيد بأن سبب الموت هو سقوطه على الشيء الصلب وليس لمجرد الضرب؛ إذ إن الضرب على الوجه لا يكون مميتاً إلا إذا أصاب محجر العين أو الأذن، أو كانت الإصابة شديدة، ولم يظهر شيء من ذلك في التشريح، فهنا يمكن للقاضي أن ينفي وجوب القصاص على المتهم، ويلزمه بالدية المغلظة، والذي حوّل مسار الجناية من كونها عمداً إلى جعلها شبه عمد هو نتائج التشريح المدونة في التقرير.
وفي المثال السابق كان الجاني معروفاً، قاصداً للجناية، لكنه لم يقصد القتل؛ لأن فعله لا يقتل غالباً، فلما حصلت الوفاة لم يمكن تمييز ذلك إلا من خلال التشريح، وتقرير الطبيب.
أما إذا أنكر المتهم ضربه للميت، أو تشاجره معه، وادعى أن وفاته كانت طبيعية، وأن موته بالقرب من بيت المتهم أو مزرعته – مثلاً – كان من قبيل المصادفة، أو أنه أتاه لغرض معين ثم مات ونحو ذلك، ثم أثبتت نتائج التشريح أن الموت كان جنائياً، وليس هناك من يتهم بقتله سواه، فهنا يمكن اعتبار نتائج التشريح من اللوث الدال على أن المتهم هو الجاني، مما يجيز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يميناً ليستحقوا بذلك القود أو الدية، ويكون القصاص حينئذ بسبب القسامة لا بمجرد مطابقة البصمات، وفرق بين الأمرين.
واعتبار تقارير التشريح في الحكم إنما يكون عند ورودها صريحة في سبب الموت، فلو ضرب رجل آخر بحديدة في رأسه ثم مات المضروب، وادعى الجاني أن موته كان بسبب مرض القلب الذي يعاني منه الميت، وأنه إنما ضربه بعصا لا يقتل مثلها غالباً، فإذا جاءت نتائج التقارير صريحة في أن سبب الموت هو شدة الضربة على الرأس، ولم يظهر شيء من أعراض المرض المذكور، فهنا يمكن للقاضي اعتبار هذه النتائج والحكم بموجبها.
أما إذا كانت النتائج محتملة كأن يقرر الطبيب بأن سبب الوفاة يحتمل أن يكون من الضربة، ويحتمل أن يكون من المرض المذكور؛ لعدم وضوح الأمر لديه، فهنا لا يمكن اعتبار هذا التقرير؛ لأنه يحتاط في الدماء ما لا يحتاط في غيرها، ومن ثَمّ يتعين إحالة الأمر إلى طبيب آخر، أو البحث عن أدلة وقرائن أخرى قد تفيد في توضيح الأمر بشكل أدق.
أما إذا جاءت النتائج إقصائية، بمعنى أنها تنفي أن يكون الموت بسبب ما ادعي به على المتهم، كأن يتهم رجل بقتل آخر بوضعه للسم في طعامه، ثم اتضح بعد التشريح أن جثة الميت لا تشتمل على أي أثر من آثار السم، وأن الوفاة كانت طبيعية، فهنا يكون للتقرير أثر كبير في نفي التهمة عن المتهم، ولا سيما إذا لم يكن هناك أمر آخر يدل على احتمالية كونه جنائياً.
• قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورتها التاسعة والخمسين التي عقدت في مدينة الطائف، ونصت عليه في قر ارها ذي الرقم (213) بتاريخ 14/6/1424هـ.
• القرائن المادية وأثرها في الإثبات (رسالة دكتوراه ـ كلية الشريعة ـ جامعة الإمام) د. زيد القرون.
• الدليل الإجرائي للأطباء الشرعيين في المملكة العربية السعودية ص57 وما بعدها.
• التحقيق الجنائي ومهام المحقق في جريمة القتل لعبد الوهاب ص237.
• الطب الشرعي في التحقيقات الجنائية لإبراهيم الجندي ص37-38.
• الطب الشرعي القضائي للجابري ص189-193.
• تشريح جثة الإنسان لمحرّم كامل ص157.
• أحكام تشريح جثة الآدمي للشنيفي ص117-123.
• الطب الشرعي والسموم للجابري ص 362-407.
• القضاء بالقرائن المعاصرة لعبد الله العجلان ص332-335.
• الجامع في فقه النوازل لابن حميد 1/108.
• أحكام الجراحة الطبية للشنقيطي ص176.
• حكم تشريح الإنسان بين الشريعة والقانون للقصار ص37.
• قضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص65.
• أحكام تشريح جثة الآدمي للشنيفي ص61
• الإمتاع والاستقصاء للسقاف ص 28.