تلويث البيئة
التخلص من المواد الصلبة أو السائلة التي تنتج عادة من عمليات الوقاية والتشخيص والمعالجة والبحث في أمراض الإنسان قد يحدث فيه نوعٌ من الإخلال بالتعمد أو الإهمال، فما الآثار المترتبة على ذلك شرعاً؟
الإخلال المتعمد أو الناتج عن الإهمال والرعونة وعدم المبالات بالواجبات التي يفرضها النظام المقرر من قبل وزارة الشؤون الصحية أو الجهات المسؤولة عن حماية البيئة للتخلص من النفايات الطبية بشكل آمن من قبل المسؤولين في المؤسسات الصحية؛ مما ينتج عنه تعرض الكائنات الحية للخطر يعتبر شرعاً من الأمور الممنوعة، ومن جملة الجرائم الطبية.
والأدلة على تحريم وتجريم إفساد البيئة بالنفايات الطبية الخطيرة كثيرة منها:
الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى نهى عباده في أكثر من موضع من كتابه عن الإفساد في الأرض، قال تعالى:(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ )[الأعراف:56].
والإفساد لفظ عام يشمل أنواعاً متعددةً وصوراً كثيرة من صور الظلم والاعتداء الحسي في الأرض، ولقد سمى الله سبحانه وتعالى الاعتداء والطغيان فساداً، قال تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ) [الفجر: 10-12].
وإذا ثبت دخول ما سبق في مسمى الإفساد في الأرض الذي جاء النهي عنه والتحذير منه، فإن تدمير الأرض وإفساد مقومات البقاء فيها (الماء والتربة، والهواء) بالتلويث والتدنيس يدخل في ذلك المسمى دخولاً أولياً؛ لاعتبارين:
الأول: أن الضرر المترتب على جريمة تلويث البيئة بالنفايات المؤذية أعظم من الضرر الحاصل بالجرائم المذكورة؛ إذ هو عام شامل، ولا يرتبط بحدود مكانية أو زمانية، فهو يلحق بسائر الكائنات الحية بما فيها الإنسان، ولا يقتصر أثره المدمر على الموجود، بل يمتد إلى الأجيال القادمة منها.
الثاني: أن مصطلح الإفساد أو الفساد في الأرض هو المصطلح الأنسب والأقرب لجريمة تلويث البيئة عن غيرها من الجرائم؛ إذ التلويث والتدنيس الحاصلان بفعل الإنسان يتضمنان معنى الإفساد أو الفساد.
والبيئة لفظة حادثة تقابل في النصوص الشرعية كلمة الأرض، فالمعاصرون عندما يذكرون البيئة لا يتحدثون في الغالب إلا عن الأرض، وما خلق الله على ظهرها من كائنات حية وبحار وأنهار وسهول وجبال، وما في بطنها من معادن وثروات وما في فضائها من هواء.
الدليل الثاني: أن النصوص الشرعية بمجملها تدل على تحريم العدوان والتطاول من الإنسان على نفسه أو نفس غيره أو تعريض شيء من ذلك للخطر، قال تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195]، وغيرها من النصوص.
الدليل الثالث: أن نصوص الشريعة متوافرةٌ على وجوب العناية بالبيئة وصيانتها، سواء بالإبقاء عليها سليمة بحفظها من الإتلاف، أو بحفظ البيئة وصيانتها من التلوث.
وقد ارتقت الأوامر الشرعية في هذا الشأن إلى أن أصبحت تمثل مبدأ أساساً من مبادئ السلوك بل إنها ارتبطت بمفهوم العبادة ارتباطاً أصبح معه التطهر بمفهومه العام جزءاً من عبادة الله.
ومن هذه الأحكام ذات الدلالة في صيانة البيئة من التلوث ما جاء في تشريع ما يوجب التطهير للأماكن الخاصة والعامة، وصيانتها من كل ما قد يلوثها من مختلف الملوثات.
وإذا كان التشديد في هذا النهي بما قد يصل إلى اللعن في بعض النصوص عن أن يصرف الإنسان فضلاته في البيئات العامة؛ حفظاً للبيئة من التلوث، ودفعاً للضرر عن الناس، فكيف بما يفوق فضلات الإنسان تلويثاً وضرراً من فضلات التقنية والتطور بما فيها التقنية الطبية من سموم كيماوية وإشعاعية ومعادن ثقيلة وعقاقير تدمر الخلايا وتصيب الإنسان والحيوان بالأمراض الفتاكة والأدواء القاتلة.
الدليل الرابع: أن شدة العقاب تلازم من يبدل نعمه عز وجل، وتلويث البيئة من تبديل نعم الله وتغيير الهيئة الصالحة التي كانت عليها، فاستحق فاعله عقوبة الدنيا والآخرة.
الدليل الخامس: أن الحفاظ على سلامة البيئة من التلوث مقصد من مقاصد الشريعة، وهناك منطلقان لإثبات هذه الفكرة، وهما:
أـ اعتبار حفظ البيئة مقصداً شرعياً يضاف إلى المقاصد الخمسة المعروفة: (حفظ النفس، والنسل، والعقل، والمال، والدين)، وذلك بالنظر إلى ما قرره بعض الأصوليين من مشروعية إضافة مقاصد أخرى إلى الخمسة المتفق عليها.
ويمكن الاستناد في اعتباره مقصداً مستقلاً؛ لما ذكره الإمام محمد بن الطاهر بن عاشور في أن المقاصد الشرعية الضرورية منها كلي، ومنها جزئي، وأن الجزئي: ما كان عائداً على: آحاد الأمة، وبالكلي ما كان عائداً على عموم الأمة، أو على جماعة.
ب ـ اعتبار حفظ البيئة مقصداً مسانداً لتحقيق المقاصد الخمسة المعروفة، ومن قبيل: مالا يتم الواجب إلا به، على اعتبار أن مقصد رعاية البيئة تتوقف عليه المقاصد الأساسية، وإهماله يتنافى مع حفظها.
وفيما يلي إيضاح ذلك:
1ـ اعتبار سلامة البيئة مقصداً شرعياً بذاته ينطبق على سلامة البيئة وحفظها؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الأمن البيئي كما يحتاج إلى الأمن الديني والنفسي وغيرها، ويتوقف على البيئة الصالحة للحياة التمكن من تحقيق الهدف من أداء التكاليف الشرعية.
كما يتوقف على غيرها مما قصد التشريع حفظه لتحقيق هذه العبادة؛ لأن البيئة إذا لم تكن سليمة نقية خالية ستعوق المكلف عن أداء ما أوجبه عليه الله من حقوق لربه تعالى، ثم لنفسه، وأهله ومجتمعه، ومن يشاركونه الحياة.
وجماع ما جاء في الدين من أمر بحفظ البيئة ونهي عن أي ضرر بها ما جاء في القرآن والسنة من نهي مغلظ عن الفساد في الأرض، ومن تشنيع كبير على هذا الصنيع، وذلك في مواطن متعددة ومواقف مختلفة؛ مما يدل على أن حفظ البيئة من الفساد مقصد شرعي ضروري من مقاصد الشريعة الإسلامية.
2ـ اعتبار سلامة البيئة مقصداً متمماً للواجب أو من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به، فبالتأمل في الأثر المترتب على سلامة البيئة وحفظها من التمكن من القيام بأمور الدنيا والآخرة يمكن اعتبار سلامة البيئة مقصداً متمماً للواجب أو من قبيل ما لايتم الواجب إلا به، فإن أكثر العبادات والواجبات الدينية والدنيوية لا يمكن أداؤها أصلاً أو على الوجه الصحيح إلا إذا توافرت البيئة التي يعيش فيها الإنسان ويتعامل مع عناصرها من ماء نقي طاهر، وجو صحي يبقي على قوة بدنه وغداء نافع لا يضعف بدنه ويلحق به الأمراض والأعراض السيئة التي يورث بعضها لسلالته.
ويُقرر أحد الفقهاء المعاصرين بأن صحة الإنسان التي تهدف الشريعة إلى حفظها وصونها تقتضي أن كل تصرف سلبي في البيئة يؤثر سلباً على صحة الإنسان غير مقبول شرعاً؛ لأنه يتنافى ومقاصد الشريعة.
كما أن النظر في مآلات الأفعال أمر معتبر في الشريعة، ولاشك أن ما يترتب على عمليات إلقاء السموم في البيئة وما ينتج عنها من التدمير المستقبلي للحياة على الأرض موجب للتحريم.
الدليل السادس: دلت القواعد الفقهية على تحريم الإضرار بالبيئة، ومنها:
القاعدة الكبرى: (لا ضرر ولاضرار)، وما يتفرع عنها من قواعد؛ كقواعد: (الضرر يزال قدر الإمكان)، و(الضرر لا يزال بضرر مثله)، و(الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف)، و(يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، و(درء المفاسد أولى من جلب المنافع)، و(إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما).
بالإضافة إلى قاعدة: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة).
وهذه القواعد كلها قد أسست عليها أحكام كثيرة في مجالات الحياة المختلفة منعت المسلم وإن كان حاكماً أو مسؤولاً من الإساءة إلى الآخرين، وقيدت أنانيته في استغلال الموارد وفي التمتع بالخيرات.
وبناء على ما سبق فإن جريمة إلقاء النفايات الطبية الخطرة بطريقة لا يقرها النظام يمكن وصفها فقهياً بأنها من الإفساد في الأرض.
وتوصف هذه الجريمة في نصوص الأنظمة بأنها جريمة (اعتداء على البيئة)، ويعبر عنها أحياناً بجريمة تلويث البيئة، وهذا الوصف في الشريعة ونصوص النظام باعتبار ما يترتب على هذا السلوك من ضرر، وهذا الوصف ينطبق على من أساء للبيئة، وإن لم يترتب على فعله الضرر المباشر.
أما إن ترتب على تلويث البيئة بالنفايات الخطرة ضرر مباشر، فيمكن وصف هذا الفعل فقهياً بأنه قتل أو جرح بالتسبب.
كما يمكن تصنيف جرائم البيئة ضمن جرائم الضرر في حال ترتب النتيجة الإجرائية المباشرة، وجرائم الخطر في حال عدم وجود ضرر مباشر.
• النوازل في الجرائم الطبية (رسالة دكتوراه ـ قسم الفقه ـ كلية الشريعة) أمل الدباسي (644) فما بعدها.
• الإسلام وحماية البيئة، د. شوقي أحمد دنيا (بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ص 7).
• البيئة والحفاظ عليها من منظور إسلامي، د. عبدالستار أبو غدة، (بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ص 23).
• الإسلام والبيئة، د. محمد فتح الله الزيادي، (بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ص 2).
• البيئة في الفقه الإسلامي، وقاية وتنمية، خليل الميس (بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ص 11).
• الإسلام والبيئة خطوات نحو فقه بيئي، حسين الخشن، (بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ص 23).
• حماية البيئة في الإسلام، بحث منشور في مجلة الأحمدية، د. أحمد عبدالكريم سلامة، (384).