نقل أعضاء الإنسان.
الوصية بالأعضاء.
يتبرع بعض الناس بأعضائه البشرية حال حياته أو يوصي بالتبرع بها بعد موته، فهل يسوغ ذلك شرعًا؟
اختلف في هذه المسألة على اتجاهين:
الاتجاه الأول:منع التبرع لاستقطاع ونقل وزرع الأعضاء، وذهب إلى هذا القول عدد من العلماء المعاصرين.
أدلتهم:
الدليل الأول: أن الجسد الذي بين جنبينا ليس ملكًا لنا، وإنما هو ملك لله تعالى،قال تعالى ( أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) [سورة يونس: 31]فلا يصح من الإنسان التصرف بجسمه.
الدليل الثاني: أن قطع أعضاء الإنسان –حيًا كان أو ميتًا-وفصلها من موضعها مثلة، وهو أمر محرم، عملًا بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه “كان ينهى عن المثلة ” (أخرجه البخاري ح 4192)فثبت من ذلك كله أن استعمال أعضاء الإنسان –حيا كان أو ميتًا- لا يجوز عند عامة الفقهاءإلا بحق.
الدليل الثالث: أن في الأصل الأنفس التحريم، فلا يجوز إتلاف النفس المعصومةأو إتلاف جزء منها،وقدقال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [سورة:البقرة:195] وقال الله تعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) [النساء:29] وغير ذلك من الآيات.
أما الأحاديث، فكثيرة، منها: ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ – قال: حصن كان لدوس في الجاهلية – فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم وليديه فاغفر».أخرجه مسلم ح 116.
وبناءً على ما تقدم وعلى غيره من الأدلة فإن نفس الإنسان ليست ملكًا خالصًا له، وإنما هي أمانة من الله تعالى الذي خلقها وأوجدها وأمدها بما تتمكن به من إعمار الكون وخلافة الأرض، فلا يباح للإنسان أن يتصرف بنفسه ولا يتلفها أو يلقيها فيما يهلكها، بل يجب عليه الحفاظ عليها واجتناب كل ما يضرها أو يعرضها للخطر والهلاك.
الاتجاه الثاني:جواز عملية التبرع باستقطاع ونقل وزراعة الأعضاء الإنسانية،وذهب إلى هذا الرأي جملة من العلماء المعاصرين، وأكثر المجامع الفقهية ومؤسسات البحوث والهيئات الفقهية وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ووزارة الأوقاف الكويتية،والمجلس الأردني الأعلى، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وغيرهم.
أدلة المجوزين:
استدل المجيزون للتبرع بالأعضاء بأدلة كثيرة منها:
الدليل الأول:أن زرع الأعضاء يعتبر نوعًا من التداويوحفظ النفس الذي حث عليه الشارع الحكيم، وفيه إنقاذ للنفوس من الهلكةلقول الله تعالى ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ ) [سورة:البقرة:195] وقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ) [سورة المائدة: 32]
الدليل الثاني: في نقل الأعضاء تفريج للكربات، وتأكيد على مبدأ التراحم والتكافل والتعاطف بين أفراد المجتمع، والإحسان إلى المحتاجين والمضطرين، ومن الأحاديث الواردة في ذلك:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»أخرجه مسلم ح2580.
- عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).أخرجه مسلم ح 2585.
وجه الدلالة من الحديثين: فيهما دليل على أن التبرع إيثار وعمل خير، وعملية نقل الأعضاء تعبر عن أسمى معاني الأخوة الإيمانية،وفيها تفريج لكرب المؤمنين، وإنقاذ لحياتهم، وذلك مشروع كما دلت عليه هذه الأحاديث.
الدليل الثالث:مدح الله تعالى الأنصار في كتابه العزيز بقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [سورة الحشر: 9].وما الخصاصة إلا شدة الحاجة، وهي تتمثل في أجزاء البدن أكثر من غيره من المنافع الدنيوية، والإيثار يكون بالمال وبغيره، بشرط ألا يؤدي إلى هلاك المؤثر، أو حصول ضرر بالغ به؛لأن قتل النفس محرم أشد التحريم في الإسلام.
الدليل الرابع: أن الله تعالى أباح للمضطر ارتكاب بعض المحرمات لحفظ النفس وصيانتها عنالتلف، قال تعالى ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ) [البقرة:173] وقال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة الأنعام:145[ فالمحرمات أبيحت لضرورة حفظ النفس عن الهلاك،وقد أبيح مال الغير بغير إذنه مع ضمانهلحفظ النفس، فهذه النصوص الواردة في الإباحة تقابل النصوص التي تحرم ذلك، فتعتبر هذه النصوص المبيحة مخصصة لتلك المحرمة.
الدليل الخامس: من القواعد الشرعية أنه إذا أشكل علينا أمر من الأمور نظرنا إلى نتائجه وآثاره، وهي مفاسده ومضاره، أو مصالحه ومنافعه، فإذا تجلت نتائجه وعرفت عواقبه أمكننا تصوره، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، لأن الدين الإسلامي جاء لتحقيق المصالح ودفع المضار فمتى تحققت المصلحة خالصة أو رجحت على المفسدة فهناك الإباحة والجواز.
وإن تحققت المفسدة خالصة أو رجحت على المصلحة فهناك المنع والتحريم، وهذه قاعدة شرعية تسندها النصوص الكريمة ويدعمها المعنى العام الذي جاء من أجله هذا الدين.
قال تعالى في المصالح الخالصة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [سورة الأعراف:32] وقال تعالى في المفاسد الخالصة: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [سورة الأعراف:33] وقال فيما ترجحت مصلحته: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة:224] وقال فيما ترجحت مفسدته: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) [سورة البقرة: 219] (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 108، 109] وفي ضوء هذه النصوص الشرعية يظهر لنا بجلاء ووضوح مشروعية القول بجواز التبرع بالأعضاء من عدمه، فإذا علمنا رضا صاحب العضو المنزوع وموافقته في حال تصرفه في بنفسه، وعلمنا ضرورة المريض إلى ذلك العضو، وقال الأطباء الثقات إنه بالإمكان نزع عضو من هذا الإنسان وتركيبه في إنسان آخربلا ضرر كبير يلحق المنزوع، وبنجاح محقق أو مترجح في حق الذي سيركب فيه، وأن المعدات والأجهزة موجودة علمنا من النصوص الكريمة ومن القواعد الشرعية العامة أن الشرع الحنيف يبيح نقل عضو إنسان غير متضرر-كثيرا- من نقله منه إلى آخر في ضرورة أو حاجة ماسة إلى ذلك العضو، وأنه عمل مباح لا إثم فيه ولا حرج.
وقد عضد المجوزون أدلتهم بعدة أدلة عقلية تتضمن مناقشة لأدلة المانعين منها:
أولاً: لانسلم أن التمثيل المنهي عنه –كما وردت به الأحاديث النبوية- متحقق في مسألة نقل الأعضاء البشرية، لأسباب كثيرة منها:
- أن التمثيل المنهي عنه هو ما يقع في الحروب والمعارك بجدع الأنوف والآذان وشق البطون وقطع الأجهزة التناسلية وتشويه الجثة، أما في مسألة نقل الأعضاء فليس هناك تمثيل بلالعملية متبوعة بجراحات التجميل وإخفاء الآثار بحيث لا تحس ولا ترى.
- أن دوافع التمثيل في الحرب والجرائم هي الانتقام والتشفي والبغضاء والعداء، أما هذا فدافعه الرحمة والعطف والحنان من شخص محب مؤثر إنقاذ قريب أو صديق أو حبيب مهددة حياته بالتلف فهناك فرق بين الدافعين.
- أن هذا المسمى تمثيلًا جار- الآن – بين الأطباء في عموم المستشفيات، إلا أنه يكون بنقل جزء من البدن إلى موضع آخر منه، فكثيرًا ما تؤخذ الشرايين من الساق أو من غيره لإسعاف القلب أو غيره به، ولم يعتبر هذا عند عموم المسلمين تمثيلًا وتشويهًا يتحاشاه الناس، وإنما اعتبر ذلك نجاحًا كبيرًا في عالم الطب وغوثًا مفيدًا لحياة المرضى المقعدين.
ثانيًا: لا وجه للقول بأن عملية نقل الأعضاء فيها تغيير لخلق الله الذي ورد النهي عنه في قوله تعالى: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ ) [سورة النساء الآية: 119] لأن التغيير المنهي عنه هو ما كان يعمله أهل الجاهلية من أنهم إذا عملوه في أنعامهم بتخريق آذانها وجدع أنوفها وتحريم ركوبها تمويهًا من الشيطان، لتكون سائبة، لتسلم بقية أنعامهم من العينومن حسد الحاسد، ونحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة، وهي بعيدة عن هذا المعنى الذي لم يقصد به تغيير خلق الله ولم يكن من إيحاء الشيطان ومن وسوسته، وإنما يقصد به الإصلاح وإنقاذ النفس الإنسانية الواجب إنقاذها، ثم هو ليس تمويه كهان أو دجاجلة، وإنما جاء ذلك من ثمار العلوم وإعمال العقول ونتائج التجارب وتحقيق المصالح.
ثم إن إجراءها بواسطة الأطباء المهرة والأجهزة الفنية الدقيقة مما يدعو غالبًا إلى سلامة العاقبة وحصول المطلوب.
شروط التبرع بالأعضاء
اشترط القائلون بالجواز شروطًا عدة.
وقد وردقرار من مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلاميفي دورته الثانية بمكة المكرمةفي الفترة ما بين 28 ربيع الثاني و7 جمادى الآخر عام 1405هـ.بما يلي:
أولاً: إن أخذ عضو من جسم إنسان وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه؛لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية، هو عمل جائز لايتنافى مع الكرامة الإنسانية، بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة، وإعانة خيرة للمزروع فيه، هو عمل مشروع وحميد، إذا توافرت فيه الشروط الآتية:
- ألايضر أخذ العضو من المتبرع به ضررًا يخل بحياته العادية؛ للقاعدة الشرعية (الضرر لايزال بضرر مثله ولا بأشد منه)، ولأن التبرع حيئنذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهذا أمر غير جائز شرعًا.
- أن يكون إعطاء العضو طوعًا من المتبرع،دون إكراه.
- أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المضطر.
- أن يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققًا في العادة غالبًا.
ثانيًا: تعتبر جائزة شرعًا بطريق الأولوية الحالات الآتية:
- أخذ العضو من إنسان ميت، لإنقاذ حياة إنسان آخر مضطر إليه، بشرط أن يكون المأخوذ منه مكلفًا، وقد أذن بذلك حال حياته.
- أن يؤخذ العضو من حيوان مأكول اللحم ومذكى مطلقًا أو غيره عند الضرورة؛لزرعه في إنسان مضطر إليه.
- أخذ جزء من جسم الإنسان لزرعه أو للترقيع في جسم نفسه، كأخذ قطعة من جلده أو عظمه لترقيع ناحية أخرى من جسمه بها عند الحاجة إلى ذلك.
- وضع قطعة صناعية من معادن أو مواد أخرى في جسم الإنسان؛لعلاج حالة مرضية فيه كالمفاصل وصمام القلب وغيرهما.
فكل هذه الحالات الأربع يرى المجلس جوازها شرعًا بالشروط السابقة.
1-أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، د. محمد بن محمد المختار الشنقيطي، ط2، دار مكتبة الصحابة، جدة، 1415.
2-انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًَّا أو ميِّتًا، د. محمد علي البار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد:4، 1408.
3-فقه النوازل، بحث:التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني، د. بكر أبو زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت
4-حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضاء أو أجزاء منها، د. أحمد فهمي أبو سنة، مجلة المجمع الفقهي، سنة: 1408، العدد:1.
5-زرع الأعضاء في الشريعة الإسلامية، أ. د. محمود علي السرطاوي، مجلة دراسات الشريعة والقانون، العدد:3، سنة: 1984م.
6-فقه القضايا الطبية المعاصرة: دراسة فقهية طبية معاصرة، أ. د. علي محيي الدين القره داغي و أ. د. علي يوسف محمدي، ط2، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1427.
7-قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1422، قرار رقم:(1)، عام 1988م، بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًّا وميِّتًا وأيضًا قرار المجمع في دورته الثامنة المنعقد بمكة المكرمة 1405 والمنعقد بجدة 1410.
8-مجموع الفتاوى الإسلامية الصادرة عن دار الإفتاء المصرية، المجلد العاشر، الناشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1400.
9-المسائل الطبية المعاصرة وموقف الفقه الإسلامي منها، د. عليداود الجفَّال، دار البشير.
10-موت الدماغ، د. محمد علي البار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، سنة: 1408، ع: 3، ج2.
11-نقل وزراعة الأعضاء الآدمية، عبد السلام السكري، ط الدار المصرية.