قد يحتاج المريض صغيرًا كان أو كبيرا، ذكرًا كان أو أنثى إلى اسعافه نتيجة حادث أو مرض عارض وقد يمتنع المريض نفسه، أو يمتنع ولي أمره، وقد يكون المنع من جهة الطبيب نفسه أو من جهة المؤسسة الطبية التي يعمل فيها الطبيب.
تكلم بعض الباحثين المعاصرين على صورة الامتناع هذه، وبينوا الحكم فيها وجاءت أبحاثهم ما بين مجمل ومفصل، ومن خلال الاطلاع على تلك الأبحاث الواردة في الموضوع ظهرت ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول:تحريم الامتناع من إسعاف المريض إذا كان وضع المريض في خطر، وتعين الطبيب لإسعافه، واستدل لهذا الحكم بالقياس من عدة وجوه:
الأول: القياس على منع فضل الماء والزاد حيث يجب في حال الضرورة بذل الفائض منهما ويحرم المنع لحديث أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله ﷺ : (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل…)الحديث.أخرجه البخاري (ح 2672).
الثاني: الأخذ قهرًا عند الضرورة إلى ما يخشى من التلف بدونه فقد اتفقت كلمة الفقهاء، على جواز أخذ الماء والزاد من الممتنع قهرًا إذا امتنع صاحبه من بذله إلا أن يكون محتاجًا إليه في الحال إلا إذا ساواه مالكه في الضرورة[1].
الثالث: قياس الامتناع على احتكار الحاجات الضرورية:
فقد يكون الاحتكار محرمًا إذا أضر بالناس فيقاس عليه الطبيب الممتنع، فكأنه احتكر العلاج والمداواة، بجامع إيقاع الضرر بالناس مع القدرة على دفعه والتوسعة عليهم.
الرابع: القياس على مسألة التعسف في استعمال الحق فهو محرم، ويقاس عليه الطبيب الممتنع عن العلاج.
الخامس: أن الامتناع عن العلاج ترك للواجب العيني والكفائي.
الاتجاه الثاني:تقسيم أسباب الامتناع إلى عدة أسباب يختلف الحكم باختلافها، فقد يكون الممتنع طبيبًا، وقد يكون غيره ممن له علاقة بالمريض ويستطيع إسعافه.
ويمكن تصنيف الأسباب إلى التالي:
أولاً: الامتناع بسبب العجز وعدم القدرة على إسعاف المريض، فهذا لا يجب عليه الإسعاف لأدلة كثيرة منها:
- قوله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )[سورة البقرة من الآية 286]. وقوله تعالى: ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ).[سورة التوبة:الآية91].
2.قوله ﷺ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوا وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم».أخرجه مسلم(ح 1337)
- قوله ﷺ: (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن) أخرجه أبو داود (ح 4586) والنسائي (ح 4830) وابن ماجه (ح 3466).
- أنه قد يضر المريض بقصد إسعافه، خاصةً في حوادث السير؛ لأن الإصابات الخطيرة لها تعامل خاص، حتى لا تتضاعف الكسور ونحوها.
ثانيًا: الامتناع عن الإسعاف خوفًا من حصول الضرر.
وله صورتان:
أ. الخوف من حصول الضرر بالمسعِف:
فإذا ترتب على الإسعاف ضرر بالمسعف في دينه أو ماله فلا يجب عليه الإسعاف ويجوز له الامتناع لقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) من الآية 78 من سورة الحج.
ولقوله ﷺ: (لا ضرر ولا ضرار )أخرجه ابن ماجه (ح 2340) والإمام أحمد (ح 2865)، وصححه الألباني بمجموع طرقه، إرواء الغليل (ح 896).
ب. الامتناع عن الإسعاف خوف الضرر على غير المسعف، وله صور منها:
- الامتناع عن إسعاف الجنين الذي ماتت أمه وهو في بطنها، وهذه المسألة ذكرها الفقهاء في كتبهم ولهم فيها قولان: أحدهما: الجواز، والثاني: المنع.
- الامتناع عن إسعاف المريض خوفًا على مريض آخر، وهنا لا يخلو إما أن يستوي المرضى في الحضور أو يأتي بعضهم قبل بعض، فإن استووا في الحضور فإذا كان بعضهم أشد حاجة من بعض فيقدم المسعف الأشد حاجة ويؤخر أو يمتنع عن إسعاف من هو أدنى حاجة من غيره، وإن استووا في الحاجة والحضور ولا مزية لتقديم أحدهم على الآخر فقولان:
أحدهما: التقديم بالقرعة، والثاني: يخير المسعف في تقديم أحدهما على الآخر.
فإن امتنع المسعف عن تقديم المساعدة لأسبقية بعضهم بالحضور فله صورتان.
الأولى: القدرة على إسعاف الجميع فلا يجوز له أن يمتنع عن إسعاف البعض مع قدرته على إسعاف الجميع.
وإن امتنع عن إسعاف البعض لعجزه عن إسعاف الجميع وتفاوتوا في السبق لم يخل الأسبق من أمرين:
الأول: أن ترجى حياته، فللمسعف الامتناع عن تقديم المساعدة للمتأخر؛ لأن الحق للأسبق.
الثاني: ألا ترجى حياة الأسبق فيتخرج في المسألة قولان: أحدهما:أن المسعف ليس له ترك معالجة من لا ترجى حياته كنقل أجهزة الإنعاش منه، لى من ترجى حياته، بل يمتنع من مساعدة من ترجى حياته إذا لم يمكن مساعدته إلا بذلك.
والثاني: أن المسعف له نقل الأجهزة ممن لا ترجى حياته إلى من ترجى حياته، وليس له أن يمتنع من مساعدة من ترجى حياته.
السبب الثالث: الامتناع من إسعاف المريض لليأس من حياته:
وله حالتان:
الأولى: أن يكون الامتناع قبل مباشرة الإسعاف.
والثانية: أن يكون الامتناع بعد مباشرة الإسعاف وله صور:
أحدهما: أن يكون المريض حيا حياة مستقرة، فلا يجوز الامتناع عن مواصلة إسعافه برفع أجهزة الإنعاش عنه.
والثانية: أن يكون المريض ميتًا دماغيًا، وهذه محل خلاف، فقال بعض أهل العلم:لا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عنه. وقال آخرون:يجوز.
الاتجاه الثالث:تقسيم الامتناع إلى ثلاثة أقسام:
- الامتناع المحمود.
- الامتناع المذموم.
- الامتناع المباح.
فيكون محمودًا في حق المريض والطبيب في حال العلاج بالمحرمات، وفي حال تخلف إذن المريض، وكون المرض في غير تخصص الطبيب.
أما المذموم: فيحرم على الطبيب أن يمتنع عن إسعاف المريض الذي يحتاج إلى تدخل علاجي أو جراحي عاجل، وسواء كان في المستشفى الحكومي أو في عيادة خاصة، كذلك يحرم عليه أن يمتنع عن علاج المريض الذي ارتبط معه بعقد استوفى الأركان والشروط الشرعية.
وأما الجائز: ففي حال كونه مريضًا أو مكرهًا أو غير مستعد نفسيًا أو ذهنيًا أو بدنيًا ونحو ذلك
الآثار المترتبة على الامتناع عن الإسعاف:
يترتب على الامتناع عن إسعاف المريض عدد من الآثار وهي:
1.الإثــم:
لأنه ترك واجبًا عليه، بل عده بعض الباحثين كبيرة؛ قياسًا على الامتناع عن الشهادة بالحق، بل هو أولى؛ لأن الامتناع عن الشهادة فيه تضييع الحق، وهذا فيه إضاعة الأوراح، وحفظ النفس من الضروريات الخمس.
2.القصاص: في وجوب القصاص بالامتناع من الإسعاف ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول:يرى بعض الباحثين أن الطبيب الممتنع عن إسعاف المريض لو مات المريض فلا قصاص على الطبيب الممتنع؛ تخريجًا على قول من يرى من الفقهاء أن الممتنع من إنقاذ غيره ليس عليه قصاص، وهو قول الجمهور، ويعلل لذلك بأن الامتناع لا يسمى قتلًا، ولا عدوانًا، ولأن الأصل هو عصمة الدماء وليس هناك دليل صريح في إيجاب القصاص على الممتنع.
الاتجاه الثاني:توقف بعض الباحثين عن إيجاب القصاص؛ لأن القول بوجوب القصاص متجه إذا نظرنا إلى تيقنهم بموت المضطر بتركه دون طعام أو شراب، ومن جهة أخرى يصعب القول به إذا لم يبدر منهم فعل أدى إلى موته وإنما هو كفُّ وامتناع.
الاتجاه الثالث:يرى بعض الباحثين وجوب القصاص على الطبيب الممتنع عن إسعاف المريض إذا تعين عليه الإسعاف والعلاج في ضوء الاعتبارات الشرعية والمهنية، وعلل ذلك بأنه داخل في قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) سورة الشورى: جزء من الآية 40ولأنه تسبب في قتله.
3.الديــة:
يرى بعض الباحثين المعاصرين وجوب الدية على الطبيب الممتنع عن إسعاف المريض، ويبني المسألة على مسألة الممتنع عن إنقاذ غيره من هلكة مع قدرته على مساعدته ولم يفعل، ولأن فيه -أي في القول بإيجاب الدية- تحقيقًا لمبدأ التكافل والتعاون الذي دعا إليه الإسلام، وفيه سد لذريعة التهاون والتساهل في إغاثة الملهوفين.
ويرى بعض الباحثين أن الطبيب إنما يجب عليه الضمان بالدية إذا كان ثمة استغاثة، أما إذا لم يكن ثمة استغاثة فلا مسؤولية، فهو يوافق في إيجاب الدية تخريجًا على قول من يرى تضمين مانع الماء والزاد، قياسًا على الشهادة، فإن الشاهد إنما يلزمه الشهادة إذا طلبه صاحب الحق
3-الكفارة:
يرى بعض الباحثين وجوب الكفارة على الممتنع عن إسعاف المريض مع قدرته على ذلك، وهي كفارة القتل الخطأ. وأضاف بعض الباحثين قيد: ألا يلحق بالمسعِف ضرر.
4-التعزير:
يرى بعض الباحثين أن من حق الإمام تعزير الطبيب الممتنع عن إسعاف المريض مع قدرته وعدم الضرر عليه، لأن الطبيب قد ترك واجبًا عليه.
[1]المغني 9/421.
1-أخلاقيات المهنة، الامتناع عن إسعاف وعلاج المريض، إيقاف الإنعاش القلبي الرئوي. أ.د. أحمد بن يوسف الدريويش، ضمن السجل العلمي لمؤتمر الفقه الإسلامي الثاني، قضايا طبية معاصرة،بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
2-الموسوعة الطبية الفقهية، د. أحمد محمد كنعان.دار النفائس، بيروت.
3-حكم الامتناع عن إسعاف المريض في الفقه الإسلامي والأنظمة الصحية د. فيصل بن سعيد بالعمش، ضمن السجل العلمي لمؤتمر الفقه الإسلامي الثاني، قضايا طبية معاصرة،بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
4-الامتناع عن إسعاف المريض (حكمه – أسبابه – آثاره ).د. عبدالكريم بن محمد بن أحمد السماعيل، ضمن السجل العلمي لمؤتمر الفقه الإسلامي الثاني، قضايا طبية معاصرة،بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
5-امتناع الطبيب عن العلاج بين الشريعة والقانون د. عبدالله بن إبراهيم الموسى، ضمن السجل العلمي لمؤتمر الفقه الإسلامي الثاني، قضايا طبية معاصرة،بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.