قسم العبادات

الإفادة من الحسابات الفلكية في إثبات الأهلة

مسألة رقم 108

صورة المسألة

دلت الأدلة الشرعية على اعتبار الرؤية في إثبات الأهلة..، ولكن هل يمكن الاعتماد على الحسابات الفلكية خاصة وأن بعض العلماء يذكر أنها قطعية ويستدل بقول الله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس: 39] وقول الله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: 5]، أي هما ذوا حساب فلا ينخرم ذلك أبدا، وكذلك الفصول الأربعة لا ينخرم حسابها، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع.
قالوا: ويتأيد ذلك بكلام أهل الهيئة وعلماء الفلك المعاصرين، فإنهم يجزمون بقطعية الحسابات الفلكية خاصة في وقتنا الحاضر الذي تقدم فيه علم الفلك تقدما هائلا، وأصبح بالإمكان حساب سير النجوم والكواكب والمجرات بدقة، أما حسابات الشمس والقمر فقد أصبحت عندهم من البدهيات.. أو أن هذه الحسابات لا يلتفت إليها باعتبار أن النصوص قيدت إثبات الأهلة بالرؤية.. أو أنه يعتمد عليها في النفي دون الإثبات؟

حكم المسألة

اختلف العلماء القدامى والمعاصرون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لايعتمد على الحساب الفلكي مطلقا لافي النفي ولا في الإثبات.

وبه قال أكثر الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة.

واستدلوا بقول الله -تعالى- : (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) [البقرة: 185]. والمقصود بالشهادة هنا رؤية الهلال.

وبقوله ﷺ : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً). [البخاري (1810),ومسلم (1081)], وفي رواية: (إذا رَأيتُموهُ فصوموا، وإِذا رأَيتُموهُ فأفطِروا، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له) [البخاري (1900) ومسلم (1080)].

قالوا: إن النبي ﷺ علق الصوم والإفطار بالرؤية, وأمرهم إذا كان غيم أو نحوه ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة ثلاثين, فقالوا إنه لم يأمر أمته بالحساب, ولا بالرجوع إلى الحساب، بل حصر العلم بدخول الشهر في الرؤية بطريق النفي والإثبات, فدل على أنه لا اعتبار شرعا لما سواها في إثبات الأهلة, قالوا: وهذا تشريع من الله على لسان رسوله ﷺ عام للحاضر والباد, أبدا إلى يوم القيامة, ولو كان هناك أصل آخر للتوقيت لأوضحه لعباده؛ رحمة بهم, وما كان ربك نسيا.

 

وقد أخذ بهذا الرأي المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي حتى في المناطق التي يغلب على سمائها الغيوم، جاء في القرار رقم (1/4) من الدورة الرابعة:

(..كما يقرر أنه بالنسبة لهذا الوضع الذي يوجد في أماكن مثل سنغافورة وبعض مناطق آسيا وغيرها، حيث تكون سماؤها محجوبة بما يمنع الرؤية، فإن للمسلمين في تلك المناطق وما شابهها أن يأخذوا بمن يثقون به من البلاد الإسلامية التي تعتمد على الرؤية البصرية للهلال،دون الحساب بأي شكل من الأشكال، عملاً بقوله ﷺ : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). وقوله ﷺ : (لاتصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة).

 

وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة التعاون الإسلامي قرار رقم: 18 (6/3): يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد، مراعاة للأحاديث النبوية، والحقائق العلمية.

وأخذ بهذا الرأي كذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية حيث جاء في الفتوى رقم (2036):

(القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله ﷺ : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة» من أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمدا ﷺ عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.

 

ثانيا: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم ومع ذلك قال: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، وبينه رسوله ﷺ بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها؛ فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله ﷺ من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه).

 

القول الثاني: أنه يعتمد على الحسابات الفلكية مطلقا في النفي والإثبات.

ونسب هذا القول إلى ابن سريج, الذي نسبه إلى الإمام الشافعي، ومطرف بن عبد الله الشخير, وابن قتيبة, والقفال, وابن السبكي من المتأخرين.

وقد أنكر بعض العلماء نسبة هذا القول إلى الشافعي، فقال ابن عبد البر – بعد أن ساق النقل السابق عن ابن سريج -: “الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية فاشية أو شهادة عادلة أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً؛ لقوله ﷺ: “صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين”.

وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أن ابن سريج نقل هذا القول عن الشافعي: “والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور”.

وأما نسبته إلى مطرف فقد قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف.

ومن أشهر من يرى الاعتماد على الحساب الفلكي مطلقا من العلماء المعاصرين: الشيخ أحمد شاكر والشيخ مصطفى الزرقا رحمهما الله.

واستدلوا بقول الله ـ تعالى ـ: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: 5].

ووجه استدلالهم أن الله ـ جل وعلا ـ أوجد هذه الأجرام السماوية بعلم وحساب وحكمة، فهي لا تسير عشوائياً، بل إن القرآن نص على أن المطلوب منا أن نتعلم كيف تسير هذه الأجرام, فقال ـ تعالى ـ: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [الإسراء: 12]، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس: 5].

واستدلوا كذلك بقول النبي ﷺ: (إذا رَأيتُموهُ فصوموا، وإِذا رأَيتُموهُ فأفطِروا، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له)، [البخاري (1900) ومسلم (1080)].

ووجه الدلالة منه أن الحديث يشير إلى التقدير والحساب وإعمال الذهن والعقل “فاقْدُرُوا له”، وهي الحالة العامة، فهو يحض على الأخذ بالحساب والعلم متى توافرت أسبابهما من أدوات رياضية وأجهزة علمية وحاسبين يؤمن بينهم الخطأ.

واستدلوا كذلك بقول النبي ﷺ ـ: (إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ، الشهرُ هكذا وهكذا. يَعني مرَّةً تسعةً وعشرينَ ومرَّةً ثلاثين)، [البخاري (1913) ومسلم (1080)].

ووجه الاستدلال: أن النبي ﷺ أمر بالاعتماد على الرؤية؛ وذلك لعلة عدم معرفة الحساب، فإذا انتفت هذه العلة، واستطاعت الأمة معرفة الحساب وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور القمرية.

قالوا: الرؤية البصرية والحساب الفلكي وسيلتان لشيء واحد، وسيلتان لدخول الشهر القمري، وكل منهما يقوم مقام الآخر، فمتى وُجد أحدهما ثبت دخول الشهر، ولسنا متعبدين برؤية الهلال، بل إنما جُعل الهلال وسيلة لدخول الشهر.

واستدلوا كذلك بالقياس على إثبات أوقات الصلوات، وكما أن الصلاة أصبحت الآن في جميع بقاع الأرض تعتمد على الحساب فقط، ولم نرَ من بين علماء المسلمين من يتمسك منهم برؤية الشمس الرؤية البصرية ليرى علامات دخول أوقات الصلاة ويرفض الاعتماد على الحساب، فإذا كانت علامات الصلاة قد تحولت الآن إلى أزمنة محسوبة وأقرها جميع علماء المسلمين دون أدنى اعتراض من أي عالم منهم، فما الذي يمنع من تطبيق ذلك في تعيين أوائل الشهور العربية.

 

القول الثالث: أنه يعتمد على الحساب في النفي دون الإثبات. ومعنى هذا أنه إذا دلت الحسابات الفلكية على عدم إمكانية رؤية الهلال بشكل قاطع كأن يكون القمر يغرب قبل الشمس ثم أتى من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس فترد شهادته، أما في مجال الإثبات فلا يعمل بالحساب، فإذا دلت الحسابات الفلكية على إمكانية رؤية الهلال بعد غروب الشمس لكنه لم ير إما لغيم أو لقتر أو لغير ذلك من الموانع فلا يعتمد على الحساب في هذه الحال بل يكمل الشهر ثلاثين يوما

وقال به بعض العلماء المعاصرين، ومن أشهر من قال به الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، حيث قال لما سئل هل يعمل بحساب المراصد الفلكية في إثبات الهلال ؟ فأجاب:

(الذي نرى أن يعمل به في النفي لا في الإثبات. ومعنى ذلك: أنه لو قال شخص إنه رأى الهلال، والمراصد تقول إن الهلال لا يمكن أن يولد هذه الليلة في هذا المكان، فإنا نعمل بنفي المرصد. ولو قرر المرصد أن الهلال مولود الليلة، ولم يره أحد من الناس رؤية مجردة لم نعمل بإثبات المرصد، لأن العبرة بالرؤية الطبيعية).

قالوا: من المقرر عند جميع الفقهاء أن الشهادة لا تصح ولا يعتمد عليها حتى تنفك عما يكذبها، فشهادة الشاهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس والحسابات تدل على أنه غرب قبل غروب الشمس لم تنفك عما يكذبها؛ إذ إن هذه الحسابات القطعية تدل على توهم الشاهد في شهادته..

قالوا: ونحن نرى التوهم في الشهادة برؤية الهلال كثيرا خاصة في وقتنا الحاضر مع وجود أجرام في الأفق من أقمار صناعية وطائرات ينبعث منها دخان وغير ذلك.. ولم نر أن الحسابات الفلكية انخرمت يوما من الأيام كما دل لذلك قول الله تعالى: ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) [الرحمن: 5].

وجاء في توصيات المؤتمر العالمي لإثبات الشهور القمرية عند علماء الشريعة والحساب الفلكي الذي نظمه مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي (19-21ربيع الأول1433هـ-11-13فبراير2012م): – الأصل في ثبوت دخول الشهر القمري وخروجه هو الرؤية، سواء بالعين المجردة أو بالاستعانة بالمراصد والأجهزة الفلكية، فإن لم ير الهلال فتكمل العدة ثلاثين يوماً.. ويجب أن تتوافر في الشاهد الشروط المعتبرة لقبول الشهادة وأن تنتفي عنه موانعها وأن يتم التثبَّت من حدَّة نظر الشاهد وكيفية رؤيته للهلال حال الرؤية ونحو ذلك مما ينفي الشك في شهادته.. وأما الحساب الفلكي فهو علم قائم بذاته له أصوله وقواعده وبعض نتائجه ينبغي مراعاتها ومن ذلك معرفة وقت الاقتران ومعرفة غياب القمر قبل غياب قرص الشمس أو بعده وأن ارتفاع القمر في الأفق في الليلة التي تعقب اقترانه قد يكون بدرجة فأقل أو بأكثر ولذلك يلزم لقبول الشهادة برؤية الهلال ألا تكون الرؤية مستحيلة حسب حقائق العلم المسلمة القطعية حسب ما يصدر من المؤسسات الفلكية المعتمدة وذلك في حالة عدم حدوث الاقتران أو في حالة غروب القمر قبل غياب الشمس

المراجع

1. تنبيه الغافل الوسنان على أحكام هلال رمضان لابن عابدين ضمن مجموع رسائله.
2. ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي.
3. فتاوى اللجنة الدائمة (10/106،107).
4. فتاوى مصطفى الزرقاء (ص161).
5. مجلة الأزهر ص(1315)، عدد شعبان 1418هـ.
6. مجلة البحوث الإسلامية، ص(95)، عدد (27).
7. مجلة مجمع الفقه الإسلامي, العدد الثالث لعام 1408هـ.
8. مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (15/111).

مسائل ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى