لم تكن الأموال في العصور السابقة مثل ما هي عليه اليوم مع وجود التقدم الصناعي والتقني وما صحبه من مشاريع استثمارية ضخمة، ولهذا لم تبرز الحاجة لبحث استثمار أموال الزكاة على نطاق واسع، ولكن في عصرنا الحاضر مع ظهور المشاريع الاستثمارية الضخمة التي تدر أرباحا وفيرة على مالكيها، ومع تنوع أساليب العمل والإنتاج طرح تساؤل عن حكم توجيه بعض أموال الزكاة إلى إنشاء مشاريع استثمارية لتأمين مورد مالي ثابت ودائم للمستحقين الذين تتزايد حاجاتهم.
فما حكم استثمار أموال الزكاة في مثل هذه المشاريع؟
استثمار أموال الزكاة قد يحصل من المستحقين بعد قبضها, أو من المالك الذي وجبت عليه الزكاة أو من الإمام أو نائبه الذي يشرف على جمع أموال الزكاة، ولكل حالة حكم.
1-حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المستحقين:
نص الفقهاء على جواز استثمار أموال الزكاة من قبل المستحقين بعد قبضها؛ لأن الزكاة إذا وصلت إلى أيديهم أصبحت مملوكة ملكا تاما لهم، وبالتالي يجوز لهم التصرف فيها كتصرف الملاك في أملاكهم، فلهم إنشاء المشروعات الاستثمارية وشراء أدوات الحرفة وغير ذلك.
2-حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المالك:
استثمار المالك لماله الذي وجبت فيه الزكاة يترتب عليه تأخير لإخراج الزكاة عن وقتها، وقد اختلف في حكم تأخير إخراج الزكاة بعد وجوبها([1])، فمنهم من ذهب إلى أن الزكاة تجب على الفور فلا يجوز تأخير إخراجها إلا لعذر، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية وبعض الشافعية والحنابلة، واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على وجوب إخراج الزكاة وإيتائها المستحقين، قالوا: والأمر يقتضي الفورية.
ومنهم من ذهب إلى جواز تأخير إخراج الزكاة، وهو قول بعض أتباع المذاهب من الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على وجوب إخراج الزكاة وإيتائها المستحقين لكنهم جعلوا مطلق الأمر لا يقتضي الفورية، وبناء على ذلك فللمكلف تأخير إخراج الزكاة والمطلوب عندهم هو الأداء للزكاة سواء تقدم وقته أو تأخر.
وعلى قول الجمهور وهو وجوب إخراج الزكاة على الفور لا يجوز استثمار أموال الزكاة من قبل المالك؛ ووجه ذلك:
أن استثمار أموال الزكاة يحتاج لمدة طويلة مما يؤدي لتأخير إخراج الزكاة وهذا يضر بالمستحقين.
ثم إن الاستثمار قد تنشأ عنه خسارة فيضمن المالك ذلك فيعجز عن التعويض فيضيع حق الفقراء.
ثم إن مال الزكاة المستثمر قد يدر أرباحا طائلة تصيب المزكي بالطمع مما قد يؤدي لعدوله عن إخراج الزكاة أما إخراجها فورا فهو أقطع للطمع وأبعد عن الجشع.
وعلى قول المجيزين لتأخير إخراج الزكاة يجوز للمالك استثمار المال الذي وجبت فيه الزكاة؛ ووجهه:
أن الزكاة لا يجب إخراجها على الفور، فلو أخر إخراجها لأجل استثمارها لا حرج عليه..
3-حكم استثمار أموال الزكاة من قبل وكيل المالك:
اتفق الفقهاء على مشروعية التوكيل في إخراج الزكاة، فيأخذ الوكيل حكم الأصيل وهو مالك المال فيما يتعلق به من أحكام ومن ذلك حكم استثمار مال الزكاة، وقد سبق ذكر الخلاف في حكم استثمار المالك لأموال الزكاة، ويجري الخلاف كذلك في حق الوكيل، ويحسن التنبيه إلى أن الوكيل قد يكون شخصا حقيقيا وقد يكون شخصا حكميا يتمثل في جهة كالمؤسسات والمكاتب الخيرية التي لم تكلف من الإمام بجمع الزكاة وتفريقها فتكون وكيلة عن المالك فقط فينطبق عليها حكم المالك في استثمار أموال الزكاة على ما تقدم تقريره، فإن كلفت من الإمام أو أذن لها بالقيام بذلك فهي وكيلة عن المالك والمستحق في وقت واحد فيكون لاستثمارها لأموال الزكاة بحث آخر كما يأتي.
4-حكم استثمار أموال الزكاة من قبل الإمام أو نائبه:
يشرع للإمام أو نائبه أن يقوم بجمع أموال الزكاة، وقد اتفق الفقهاء على ذلك، وعليه فتبرأ ذمة المزكي بدفع زكاته إلى الإمام أو نائبه الذي يتولى جمع الزكاة لوضعها في مصارفها الشرعية..، ووقع الخلاف بين الفقهاء المعاصرين في حكم استثمار الإمام أو نائبه لتلك الأموال الزكوية بعد جمعها من مالكيها وذلك على اتجاهين:
الاتجاه الأول: عدم جواز استثمار أموال الزكاة، وقد أخذ بهذا القول المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة، ومجمع الفقه الإسلامي في الهند في ندوته الثالثة عشرة، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية, وبعض العلماء المعاصرين، ومن أبرزهم: -الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي: (يجب إخراج زكاة الأموال على الفور، وذلك بتمليكها لمستحقيها الموجودين وقت وجوب إخراجها، الذين تولى الله – سبحانه – تعيينهم بنص كتابه، فقال -عز شأنه (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ … )الآية [التوبة: 60]؛ لهذا فلا يجوز استثمار أموال الزكاة لصالح أحد من مستحقيها، كالفقراء، لما ينطوي عليه من محاذير شرعية متعددة: منها الإخلال بواجب فورية إخراجها، وتفويت تمليكها لمستحقيها وقت وجوب إخراجها، والمضارة بهم).
وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية:
(لا يجوز لوكيل الجمعية استثمار أموال الزكاة، وإن الواجب صرفها في مصارفها الشرعية المنصوص عليها بعد التثبت في صرفها في المستحقين لها؛ لأن المقصود منها سد حاجة الفقراء وقضاء دين الغرماء؛ ولأن الاستثمار قد يفوت هذه المصالح أو يؤخرها كثيرا عن المستحقين).
وجاء في فتاوى الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: (استثمار أموال الزكاة في شراء العقارات وشبهها لا أرى ذلك جائزاً، لأن الواجب دفع حاجة الفقير المستحق الآن، وأما الفقراء في المستقبل فأمرهم إلى الله).
الاتجاه الثاني: جواز استثمار أموال الزكاة، وقد أخذ بهذا القول مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمةالتعاون الإسلامي في دورته الثالثة، والندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، وبيت التمويل الكويتي، والهيئة الشرعية لبيت الزكاة في الكويت, وقال به بعض العلماء المعاصرين، ومن أبرزهم: الشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور وهبة الزحيلي.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: (يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على أن يكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر).
وجاء في فتوى الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة:
يجوز استثمار أموال الزكاة بالضوابط التالية:
- ألا تتوافر وجوه صرف عاجلة تقتضي التوزيع الفوري لأموال الزكاة.
- أن يتم استثمار أموال الزكاة – كغيرها – بالطرق المشروعة.
- أن تتخذ الإجراءات الكفيلة ببقاء الأصول المستثمرة على أصل حكم الزكاة وكذلك ريع تلك الأصول.
- المبادرة إلى تنضيض (تسييل) الأصول المستثمرة إذا اقتضت حاجة مستحقي الزكاة صرفها عليهم.
- بذل الجهد للتحقق من كون الاستثمارات التي ستوضع فيها أموال الزكاة مجدية ومأمونة وقابلة للتنضيض عند الحاجة.
- أن يتخذ قرار استثمار أموال الزكاة ممن عهد إليهم ولي الأمر بجمع الزكاة وتوزيعها لمراعاة مبدأ النيابة الشرعية وأن يسند الإشراف على الاستثمار إلى ذوي الكفاية والخبرة والأمانة.
([1]) بدائع الصنائع (2/35), مواهب الجليل (2/364), المجموع للنووي (6/138, 150), كشاف القناع للبهوتي (2/261, 282).
1. أبحاث وأعمال الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة ص(82، 323).
2. أحكام وفتاوى الزكاة والصدقات، فتاوى الهيئة الشرعية لبيت الزكاة، ص(136).
3. استثمار أموال الزكاة، محمد عثمان شبير (2/530).
4. استثمار أموال الزكاة وما في حكمها من الأموال الواجبة حقا لله تعالى، صالح بن محمد الفوزان ص(111).
5. الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية، بيت التمويل الكويتي، (1/309).
6. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (9/454).
7. فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة ص(51).
8. قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، الدورة الخامسة عشرة، ص( 39)،
9. مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد: 3، بحث مصطفى الزرقا.
10. مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد العثيمين (18/478).
11. نوازل الزكاة، عبد الله الغفيلي ص(469-496).