حفظ سر الخاضع للتجربة الطبية
السر الطبيّ ضرب من ضروب السرِّ اّلمأمور بكتمانه؛ حفظا لحق المريض، ولمن له علاقةٌ به، وفي مجال البحوث الطبية قد يتطلّب إجراءُ بحثٍ ما جمع وتخزين بعض المعلومات التي قد يتسبّب إفشاؤها لطرفٍ ثالث في إلحاق الضرر النفسي والاجتماعي بالخاضِع للتّجرِبة، فيتعيّن على الباحث اتّخاذ إجراءات أمانٍ وقَائية لحماية سِرّية المعلومات المتعلّقة بمن يُجرى عليهم البحث، كإلغاء البيانات التي تؤدي إلى التّعرُّف على المشاركين، ومنع غير المختصين من الوصول إلى البيانات، وتجهيل المعلومات، ونحو ذلك. كما يجب على الباحث إبلاغ المُشاركين بالحدود الشرعية لقُدرته على ضمان سِرّية المعلومات، وبالاحتياطات التي سيتمّ اتخاذها لحماية هذه المعلومات، والعواقب المُحتملة إذا انتُهكت سرِّيتُها، فما حكم إفشاء سر المشارك في التجربة الطبية؟
إفشاء الطبيب للسِّر أشدّ وأعظم ضرراً من غيره؛ لأنّ الناس قد أمنوه على أبدانهم وعوراتهم، فالمريض يعرف حاجة الطبيب إلى معلومات كافية لتشخيص المرض وعلاجه، ويعرف أنّ من واجب الطبيب كتمان هذه المعلومات عن الغير، فلا يتردّدُ في إجابة الطبيب عن أيّ سؤال يوجّهه إليه، ولا يجد حرجاً في الإفضاء بسرّه إليه، ولذا عظُمت الوصيّة للأطباء بالتأكيد على أنه لا ينبغي أن يفشيَ سرَّ المرضى وعدم إفشائها، فكان من وصايا أبقراط للأطباء ذلك.
ويدل لوجوب حفظ سِرِّ الخاضع للتّجرِبة الطبية بخاصة، وسِرِّ المريض بعامة ما يأتي:
١- أنّ السِرَّ أمانة، وإذا كان أمانةً حرُمت فيه الخِيانة، وقد أمر الله تعالى بحفظ الأمانة، ورعايتها.
2ـ أن الشارع الحكيم حث على الستر ورغب فيه، ومن الستر على المسلم حفظ سره، الذي يلحقه الضرر بإفشائه.
3ـ أن السر من العورة الواجب سترها.
4ـ أن إفشاء السر من الإضرار بالمسلم، ولايحل للمسلم أن يتعمد الإضرار بأخيه بغير حق، ولا أن يسعى فيما يكون سبباً للإضرار به.
5ـ أن إفشاء السر من الغيبة المحرمة؛ لأنه ذكر لصاحبه بما يكره.
والكتمان سلوك قصدي يهدفِ إلى تحقيق مصلحةٍ، والأصل في الشَّرع حُرمة أسرار المُشارِكين في التّجارِب الطّبية من المرضى والأصِحاء وعدم جواز نشرها لكن ذلك مشروطٌ بألا يؤثر على حق عامٍ أو خاصٍ، فإذا كان في الكتمان خيرٌ كان محموداً، وإذا كان فيه أذى للآخرين كان مذموماً، ولا حُرمة لِسِرٍّ تنبني على كِتمانه مفسَدةٌ أعظم من كَشفِه.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز كشف السِّرّ في الحالتين التاليتين:
الحالة الأولى: إذن المُشارِك في التّجربة بإفشاء السِّرّ، فإذا أذِن المُشارِك في التّجرِبة للطبيب بإفشاء ما وصل إلى علمه بأي طريق جَاز للطبيب إفشاؤه؛ لأن الحق له، والمنع لأجله، فجاز بإذنه.
ويشترط لاعتبار هذا الإذن شروطٌ هي:
١- أن يكون الإذن صادرًا عن صاحب السرِّ نفسه؛ لأن الحق له.
٢- أن يكون أهلاً للإذن، فلا يُعتبر إذن الصغير والمجنون؛ لعجزهما عن تقدير مصالحهما، وحفظ حقوقهما.
٣- أن يكون الإذن ناشئاً عن إرادةٍ سليمةٍ، غير مشُوبةٍ بأيّ عيبٍ من عيوب الإرادة كالإكراه.
٤- أن يكون الإذن صريحاً، مشافهةً أو كتابةً.
٥- ألا يؤدي الإذن إلى الإضرار بأحدٍ، فرداً كان أو جماعة، وإلا كان غير مُعتبر، وذلك مثل: أن يقومَ طبيبٌ بإجراء بحثٍ على المادة الوراثية لعددٍ معيّن من قبيلةٍ معيّنة لمعرفة الأمراض التي يمكن أن تصيب هذه القبيلة، وينشر نتائج هذه الدّراسة استناداً إلى إذن الخاضعين لها، فإن ذلك غير جائز؛ لأن الحق ليس خاصاً بالمُشارِكين في التّجرِبة وحدهم، بل يتعدّاهم إلى غيرهم من أفراد القبيلة.
ولأهمية شأن البحث العلمي على المادة الوراثيّة فقد خَصَّها نظام أخلاقيات البحث على المخلوقات الحيّة (السعودي) بعددٍ من المواد، ومنها: المادة الرابعة والثلاثون، وفيها: (يجب على الباحث مُراعاة خصوصية وسِرِّية المعلومات المتعلِّقة بمن جُمِعت عيّنات البحث منهم).
الحالة الثانية: أن يُؤديَ كِتمان السِّرِّ إلى ضررٍ أبلغ من ضررِ الإفشاء.
والطبيب في عمله يطّلِع على كثيرٍ من المعلومات الخاصة، وينكشِف له ما خفِيَ من أمور مرضاه، مما أفضى به المريض إليه، أو شاهده منه، أو استنتجه من تشخيصه أو بحثه وتجرِبته.
فإذا عرف الطبيب الباحث من حال الخاضِع للتّجرِبة ما يُمثِّل خطراً على إنسانٍ آخر كزوجته وأولاده، أو على المجتمع، كأن يكتشف إصابته بمرضٍ مُعدٍ، أو إصابةَ مسئولٍ أمنيّ أو طيَّار بمرضٍ نفسي خطيرٍ، أو إدمانه للمخدرّات، فإنّ عليه أن يكشف هذا السِّرّ بالقدر الذي يندفع به الضّرّر، فإذا كان الضّرر خاصّاً كما لو كان مصاباً بمرضٍ جنسيّ مُعدٍ فبإخبار المريض بحقيقة مرضه، وخطر إقدامه على النكاح، وإخبار زوجته إن كان له زوجة، وإذا كان الضّرر عامّاً فبإبلاغ الجهة المسئولة لاتّخاذ ما يدفع الضَّرر قبل وقوعه، كالحجر على المريض بمرضٍ مُعدٍ، وإقصاء الموظف عن وظيفته أو تغيير محلّه، ونحو ذلك.
إذا تقرّر هذا، فإنما يجوز الإفشاء بالقدر الذي تندفع به الحاجة والضرورة؛ لأن (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها)، فإذا كان الضّرر خاصاً بفردٍ أو جماعةٍ معيّنة فإن الضّرر يندفع بإبلاغهم بحال من يُخشى ضرره؛ ليتّقوه، وإذا كان الضرر عاماً فبإبلاغ وليّ الأمر أو نائبه؛ لدفع ضرره قبل وقوعه، وإزالة الضّرر أو ما استُطيع منه بعد وقوعه.
وإذا كان الواجب على الطبيب حفظ سِرِّ المريض فإنه يجب على المريض أن يُخبر بحقيقة مرضه الذي يخشى على غيره منه.
ومما يتعلق بهذه المسألة: حق الباحث في نشر نتائج بحثه، فيقال:
للطَّبيب البَاحِث الذي أثمَرَ بحثُه المُستَوفِي لشروط الصِّحةِ نتيجةً إيجابيةً حقوق:
منها: حقّه في تقرير نشرِ اكتشافه العلمي، سواءً كان نظرية علميّة، أو دواءً، أو وسيلة علاجية، أو غير ذلك، وهو حق أدبي يختَصُّ به الباحث دون غيره.
ومنها: حقه في النّشر، وهو حق مالي، يقوم به الباحِث نفسه، ويقوم به غيره بعد موافقته.
أمّا الحق الأول، وهو حق تقرير النّشر، فهو من أهم الامتيازات المرتبة على الحق الأدبي للمُخترِع والمؤلف، فللطبيب الباحث وحده الحق في تحديد ما إذا كان اكتشافه العلمي قد اكتمل، وتقدير صلاحيته للنّشر، كما أن لّه وحده الحق في تحديد الطريقة التي يتِمُّ بها نشر هذا الاكتشاف، ووقت نشره دون انتهاك لحق المُشارِكين في التّجرِبة الطبية بذكر أسمائهم، أو ما يُعرِّف بشخصياتهم كنشر صورهم كاملة.
• التجارب الطبية على الإنسان (رسالة دكتوراه ـ قسم الفقه ـ كلية الشريعة) د.عبدالرحمن العثمان (423) فما بعدها.
• المسؤولية الجنائية للطبيب عن إفشاء سر المهنة د.أسامة قايد(6).
• إفشاء السر الطبي (161).
• بيان الحاجة إلى الطب والأطباء، قطب الدين الشيرازي(132).
• أخلاق الطبيب المسلم، د.محمد بازمول(26).
• الدستور الإسلامي للمهنة الطبية (700).
• ندوة القواعد الإرشادية الأخلاقية العالمية لأبحاث الطب الحيوي (126).
• ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية (184).
• التعسف في استعمال حق النشر، عبدالله النجار (371).
• الامتناع عن علاج المريض، هشام القاضي (135).
• الطبيب بين الإعلان والكتمان، محمد السلامي(36).
• الموسوعة الطبية الفقهية، د.أحمد كنعان(558).