كثيراً ما يركن المرضى إلى بعض المتخصصين في المهن الصحية لتقديم النصح لهم ثقةً في خبراتهم، وهذا يفضي إلى أن يقوم هؤلاء المرضى بإفشاء بعض أسرارهم إلى أولئك، ويفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها: أسرار لايكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه، وقد يطلع الطبيب المعالج أو الصيدلي على هذه الأسرار بحكم اطلاعه على نتائج التحاليل الطبية للمريض أو بناءً على نوع العلاج المعطى له، فما الأحكام المترتبة على قيام الطبيب المعالج أو غيره من ذوي العلاقة بإفشاء سر المريض؟
دلت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة النبوية على تحريم إفشاء الأسرار، وأن صاحبها مستحق للعقوبة الأخروية، بل ذكر بعض الفقهاء أن هذا الفعل يعد من الكبائر.
ويمكن أن يستدل على التحريم بالأدلة التالية:
الدليل الأول: عموم النصوص الدالة على فضيلة الوفاء بالعهود وحفظ الأمانات، ووجوب أدائها لأهلها، وجعلها من صفات المؤمنين، وكذا النصوص المحذرة من تضييع الأمانة والتفريط في حفظها.
الدليل الثاني: أن في إفشاء سر المريض بغير إذنه عدواناً عليه، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن العدوان.
الدليل الثالث: عموم النصوص المرغبة في ستر المؤمن.
الدليل الرابع: أن في إفشاء سر المريض ضرراً نفسياً وأذى معنوياً له، بل يترتب على كشف الأسرار الطبية الإضرار بالمهنة نفسها؛ لأنه عندما يفقد المريض الثقة بالطبيب فإنه لن يبوح له بكل ما لديه، وبالتالي لا تنكشف حقيقة المرض، وهذا كله من الضرر المنهي عنه شرعاً.
الدليل الخامس: أجمع أهل العلم على وجوب ستر العورة، وهذا الستر وإن كان واجباً على كل أحد في نفسه، فهو واجب على من يطلع على عورة غيره لقصد صحيح، وبإذن شرعي؛ كالأطباء ومن في حكمهم، والعورة تطلق على كل ما يكره المرء اطلاع غيره عليه، سواء أكانت عورات حسية أم أسراراً معنوية.
الدليل السادس: أن الله سبحانه وتعالى أمر بحفظ النفس المعصومة واحترامها، وحرّم المساس بجسم الإنسان سواء أكان ذلك المساس مادياً أم معنوياً، ومن المساس المعنوي: إفشاء الأسرار الخاصة بجسم الإنسان.
وبناء على ما سبق فإن وجوب حفظ السر مرده لأمرين:
الأول: اعتباره من قبيل الأمانة التي أمر الله بحفظها، فلا يجوز كشفها أو إباحتها إلا لضرورة.
الثاني: صيانة النفس من كل ضرر أو أذى يلحق بها.
وقد جاءت توصيات ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية بعد بحثهم لموضوع (سر المهنة الصحية)، ما يلي:
1ـ أن السر هو: ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان، أو كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ب ـ الأسرار أمانات، وعلى من استودعها حفظها التزاما بما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو ما تقتضيه المروءة وآداب التعامل.
ج ـ إفشاء السر في الأصل: محظور، ويستوجب المؤاخذة شرعاً ومهنياً وقانونياً.
د ـ يتأكد وجوب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل؛ كالمهن الصحية؛ إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة لمحض النصح وتقديم العون، ويفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها: أسرار لايكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.
2ـ يستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبه لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه على ضربين:
أـ حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
النوع الأول: ما فيه درء مفسدة عن الفرد.
النوع الثاني: ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
ب ـ حالات يجوز فيها إفشاء السر:
الحال الأولى: إذا كان في إفشائه جلب مصلحة عامة.
الحال الثانية: إذا كان في إفشائه درء مفسدة عامة.
ج ـ يضاف إلى ذلك: حالات يحصل فيها رضا صاحب السر بإفشائه، ويكون ذلك في حدود الإذن؛ لأن لصاحب الحق إسقاطه.
د ـ الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها قانون مزاولة المهن الصحية وغيره من القوانين، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بالتوعية بهذه المواطن.
3ـ الطبيب المسلم الذي يحمل قسطاً من المسؤولية العامة مصلح ومرشد وعنصر وقائي لتفادي الضرر قبل وقوعه؛ إذ ينبغي أن يحاول قبل الإقدام على استخدام الاستثناءات الجوازية لإفشاء سر المهنة الاستغناء عن ذلك بممارسة دوره الإصلاحي لوقاية من يتعرضون للخطر من المرضى أو غيرهم، بأن يرسم الطريق السوية للمريض للنهوض من كبوته، ولغيره لاتقاء ما ينجم عن مرضه من أخطار؛ وذلك لإرادة الإصلاح النفسي وإصلاح ذات البين.
أما العقوبة الدنيوية فإن إفشاء الأسرار الطبية يعتبر من الجرائم التعزيرية، إذ إنه من المعاصي التي لم يرد فيها عقوبة مقدرة في الشرع، فيجتهد القاضي في وضع العقوبة المناسبة التي يتحقق بها الزجر، خاصة وأن العقوبة التعزيرية في إفشاء الأسرار الطبية تختلف باختلاف درجة الإفشاء، ونوع الأسرار، ومفشي السر، ومدى حصول الضرر بالإفشاء وغير ذلك.
والشرع حينما لم ينص على عقوبة محددة لهذه المعصية ليس تهويناً من شأنها، بل لأن الضرر الذي يترتب على الإفشاء يختلف من سر لآخر، فالضرر الناتج عن إفشاء سر بين شخصين يختلف الضرر الناتج عن إفشاء سر بين طبيب ومريضه، لما في ذلك من إلحاق الضرر على نفسية المريض أو أهله أو مكانته في المجتمع، ومن ثم فلابد أن تختلف العقوبة من شخص إلى آخر حسب حجم الضرر الناتج عن الإفشاء.
وإذا كان في إفشاء السر قذف للمريض في عرضه، فقد قارف الطبيب كبيرة من الكبائر المجمع على تحريمها، الموجبة للحد، فعليه حينئذ حد القدف إذا كان الطبيب مستوف لشروطه المقررة شرعاً.
وفي الواقع يعتبر التزام الممارس الصحي بحفظ أسرار المرضى مستقراً في النفوس السوية منذ وقت طويل؛ ذلك أن إفشاء هذه الأسرار يخدش الحياء العام، ويضر بالمصلحة العامة والخاصة؛ إذ يمكن أن يؤدي إلى امتناع الناس عن اللجوء إلى الأطباء خشية ظهور خصوصياتهم.
ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية أوكلت إلى ولاة الأمور مهمة تنظيم أمور الناس فيما لم تنص عليه الشريعة، ومن ذلك حفظ أسرار المرضى، حيث ورد الحث على حفظه، لكن لم يرد فيه عقوبة مقدرة لمن يخالف ذلك، ولذا فقد حرصت التنظيمات المعاصرة في مختلف الدول على وضع جزاءات لهذه المخالفة منها الإنذار أو الغرامات المالية إلغاء الترخيص بمزاولة المهنة الصحية، وشطب الاسم من سجل المرخص لهم، أو الحبس مما يدخل في عموم باب التعزير.
• النوازل في الجرائم الطبية (رسالة دكتوراه ـ قسم الفقه ـ كلية الشريعة) د.أمل الدباسي (582) فما بعدها.
• إفشاء الأسرار الطبية والتجارية (رسالة دكتوراه ـ قسم الفقه ـ كلية الشريعة) د. ياسر الخضيري (134) فما بعدها.
• قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 142، 15/8، في دورته الخامسة عشرة بمسقط، عام 1425.