أثر الكلاب البوليسية في الإثبات
مسألة رقم 176
لو قام الكلب البوليسي بشم الأثر في مكان الحادث ثم تتبع ذلك الأثر حتى توصل إلى شخص معين فهل يمكن القول بأن ذلك الشخص هو الجاني، ومن ثم يحكم عليه بمجرد استعراف الكلب؟.
استعراف الكلب لا يخلو إما أن يستتبعه اعتراف وإقرار من المتهم بما نسب إليه أو توجد قرينة أخرى قوية مثل وجود المسروقات عنده، أو لا، وكل واحدة من الحالتين لها حكمها، ويمكن بيان ذلك فيما يأتي:
الحالة الأولى: أن يبقى المتهم على إنكاره ولا يعترف بأنه الفاعل، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار ذلك الاستعراف قرينة قوية، وعليه فلا يجوز الحكم على الشخص بموجب هذه القرينة؛ لوجود الاحتمالات الكثيرة التي تضعف الاعتماد عليها، وهذا ما نص عليه العديد من الباحثين.
ويمكن التعليل لذلك بما يأتي:
أولاً: القياس على بصمة الرائحة، حيث إنها ليست قرينة قوية، ولا يجوز الحكم بموجبها فقط، ومعلوم أن الدقة في بصمة الرائحة أكثر منها في استعراف الكلب؛ لقيامها على التحليل الطيفي الدقيق، ومعرفة مكونات الرائحة، من خلال أجهزة علمية متطورة صنعت لهذا الشأن، وإذا لم يحكم بنتائج بصمة الرائحة مع كل هذه الدقة فعدم الحكم بمجرد استعراف الكلب من باب أولى، ولا سيما أن مقدرة الكلاب على تتبع الأثر وكشفه تعتمد على قوة تدريب الكلب وتعليمه وممارسته ونشاطه، والكلاب تختلف فيما بينها في هذه الناحية، وتختلف في قابليتها للتعلم والاستيعاب، ولذلك تتأثر مقدرتها على تتبع الأثر الصحيح وكشفه.
ثانياً: أنه لو سلم باختلاف الروائح من شخص لآخر بناء على ما ذكر من دراسات وتجارب، إلا أن هذه الروائح قد تتشابه إلى حد كبير نتيجة ما يقوم الإنسان بتناوله من مأكول ومشروب، وهذا قد يسبب التشويش على الكلب مما يؤدي إلى اتهام من هو بريء في واقع الحال.
ثالثاً: أن الروائح المنبعثة من الإنسان لا يمكن السيطرة عليها، ولا التحكم في خروجها، فقد يتعرف الكلب على أثر رائحة في مكان الحادث يقوده ذلك الأثر إلى شخص قد وجد في المكان لسبب مشروع سواء قبل الحادثة أو بعدها – ولا سيما مع القول بأن الروائــح قد تبقى في المكان إلى مدد طويلة وكثيراً ما يدعو حب الاستطلاع والتعرف على الأحداث العديد من الناس إلى الإسراع إلى مكان الحادث لتتبع الأخبار، مما يؤدي إلى اختلاط الروائح، فالجزم بأن صاحب هذه الرائحة هو الفاعل مع كل هذه الاحتمالات أمر في غاية الصعوبة.
رابعاً: أنه قد ثبت من خلال الواقع أن الكثير من المجرمين يسعى جاهداً إلى تضليل رجال الشرطة وكلابهم من خلال محو الآثار، أو محاولة إقحام من ليس له علاقة بالحادثة، فيقوم بنثر مواد لها رائحة نفاذة وقوية كالبهارات، والروائح العطرية، والتي تؤثر على الكلب فتشغله عن تتبع الأثر الأصلي غالباً، وقد يعمد بعض الجناة إلى وضع أمتعة يعود ملكيتها لآخرين في مكان الحادث؛ ليشغل الكلب بتتبع رائحة هذا المتاع، ومن ثم اتهام من ليس بجان، إلى غير ذلك من الحيل التي ليس هذا مجال بسطها.
خامساً: أن حاسة الشم عند الكلب والتي عليها الاعتماد والمعول في كشف المجرم والإمساك به تتأثر تأثراً كبيراً بتعب الكلب، وجوعه، وعطشه، وصحته، ومرضه، وهذه العوارض يصعب معرفتها ابتداء لكونها أعراض تنتاب دابة عجماء لا تحسن التعبير والشكوى.
ومع كل ما سبق فإن القول بعدم الحكم على المتهم بمجرد استعراف الكلب عليه لا يعني أبداً إهمال هذا الاستعراف وعدم الاستفادة منه، بل هو في عداد القرائن المتوسطة التي تورث الشك والشبهة حيال من تم الاستعراف عليه، ومن ثم يجوز للقاضي أو المحقق سؤال هذا المتهم وحبسه ونحو ذلك، حتى يغلب على الظن براءته، أو تنضم إلى هذه القرينة قرائن أخرى تقوي جانب التهمة، فيحكم عليه حينئذ بمجموع تلك القرائن.
الحالة الثانية: أن يعترف المتهم بما نسب إليه من تهمة بعد استعراف الكلب، وفي هذه الحالة لا يخلو الواقع من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يكون اعتراف المتهم صادراً بطواعية منه واختيار ـ أي دون خوف من الكلب أثناء عملية الاستعراف ـ فالذي يظهر أنه يؤاخذ بهذا الاعتراف ويحكم عليه به، فيكون الحكم حينئذ بالاعتراف والإقرار لا بمجرد استعراف الكلب، ولا شك أن الإقرار من أقوى أدلة الإثبات.
وأولى من هذا لو أن الإنسان اعترف بمجرد إخباره بأنه سيعرض على الكلب البوليسي قبل أن يستعرف عليه الكلب، فيعد اعترافاً صادراً من مكلف مختار من غير إكراه، فيعمل به ويحكم عليه بموجبه.
الأمر الثاني: أن يكون الاعتراف خوفاً من الكلب، أو نتيجة هجومه عليه وتمزيق ثيابه ونحو ذلك، فالذي يظهر أن هذا الاعتراف غير معتبر، ولا يؤاخذ به المرء؛ لأن فيه إكراهاً ظاهراً، والمكره غير مؤاخذ في الشريعة لقول النبي r: «وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه». [رواه ابن ماجه (2045)، الدارقطني (4306)].
وأما إذا وجدت قرينة أخرى أقوى من تعرف الكلب عليه فيكون الحكم بالنظر فيها، وهل تكفي للإثبات أو لا؟
• القرائن المادية وأثرها في الإثبات (رسالة دكتوراه ـ كلية الشريعة ـ جامعة الإمام) د. زيد القرون (608 ـ 617).
• الإثبات في الدعوى الجنائية بالقرائن (بحث تكميلي في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية) علي بن مد الله الرويشد ص275.
• القضاء بالقرائن المعاصرة (رسالة دكتوراه ـ المعهد العالي للقضاء ـ جامعة الإمام) د. عبدالله العجلان (535).
• وسائل التحقيق المستحدثة وأثرها في الإثبات الجنائي (بحث تكميلي في المعهد العالي للقضاء ـ جامعة الإمام) وائل الثنيان ص 132.
• أدلة الإثبات في الفقه الإسلامي لأحمد فراج 301.
• التحقيق الجنائي من الناحيتين النظرية والعملية لإبراهيم طنطاوي ص211.
• الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي لحسين إبراهيم ص112-113.
• حجية القرائن في الشريعة الإسلامية لعدنان عزايزة ص190-191.
• القضاء بقرائن الأحوال للديرشوي ص206-207.
• القرائن ودوره في الإثبات لأنور دبور ص216.
• الطب الشرعي وجرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال لفودة والدميري ص447.
• التحقيق الجنائي من الناحيتين النظرية والعملية لإبراهيم طنطاوي ص212.
• طرق الإثبات في القضاء الإسلامي لفخري أبو صفية ص166.
• طرائق الحكم في الشريعة الإسلامية لسعيد الزهراني ص350.