قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب مسائل القضاء

شهادة الزور الواقعة من الطبيب

مسألة رقم 103

صورة المسألة

يحتاج القضاة في كثيرٍ من الأحيان-وخاصةً في العصر الحاضر – إلى شهادة الطبيب، مما يقتضي منه الصدق والعدل وتجنب الكذب والمحاباة في شهادته، فما حكم شهادة الطبيب زوراً سواء كانت حضورياً عند القاضي أو بتقرير موقع منه؟

حكم المسألة

شهادة الزور محرمة أياً كان الشاهد فيها، ويزداد إثمها بزيادة أثرها، وتعظم شهادة الزور من الطبيب في القضايا التي يترتب عليها شيء من الأحكام الشرعية.

ومن أمثلة القضايا التي قد يحتاج فيها إلى شهادة الطبيب: قضية إثبات الاستهلال، وتحديد الأسبقية في الوفاة الجماعية؛ كالهدم والغرق والحرق، والذي يترتب عليهما الحكم بالإرث أو عدمه، وصدق الادعاء بعدم أهلية التصرف بالحقوق المالية، والسلامة العقلية في القضايا الجنائية، وجواز الإفطار للمريض، وعدم تكليفه بالجهاد، وإثبات العيوب المبيحة للتفريق بين الزوجين، وتحديد وقت الولادة، وسببها، والكشف عن الحمل، وإثبات النسب ونفيه، وإثبات حصول الإجهاض، وسببه، وتحديد عمر الجنين المجهض، وإثبات قضايا الضرب والجرح والتسميم وشرب المخدر والمسكر والاعتداء الجنسي؛ كإثبات حدوث جريمة اللواط، والاغتصاب، ونحوهما، ووقت حدوث الجريمة وجسامتها، ومدى خطورتها من منظور شرعي، وإثبات وجود الأمراض المعدية، وغير ذلك من الوقائع الحديثة، مثل: استحقاق الإجازة المرضية، والتأمين الصحي، والضمان الاجتماعي، والإعفاء من الخدمات العسكرية، وإثبات العجز الجزئي أو الكلي عن العمل، وما يتعلق بصلاحية الفرد للتوظيف أو الإقامة في البلد، وصلاحيته للحصول على امتيازات مرضى الإعاقات والعاهات، والتقاعد المبكر.

وقد يحتاج لشهادة الطبيب على زميل له أخل بشيء من الالتزامات الطبية أو ارتكب مخالفة ما.

وعلى الطبيب أن يتحرى الصدق والدقة فيما يحرره من شهادات وتقارير طبية تصف حالة المريض أو وليه لغرض الاستخدام الشخصي؛ إذ قد تستغل أحياناً في خدمة عمليات التسول، وتحصيل زكوات الناس وصدقاتهم.

وسبب اعتبار تزوير الطبيب تقريراً طبياً محرراً، أو تزويره في شهادته الشفوية أمام القاضي جريمة طبية؛ ما في هذا التزوير، مع ما هو معلومٌ من نصوص التحريم من ضياع الحقوق وانتشار الجريمة والظلم، والتشجيع عليهما، وإهدار حق المظلوم والانتصار للظالم، كما أن فيها إعانة على الباطل من أكل الأموال غير المستحقة، والتفريط في الأمانات، وغش ولاة الأمر والمسؤولين، وتضييع مصالح المسلمين، وهذا يظهر في التقارير الطبية التي تستصدر لموظفي الدولة، لإثبات علل أو عاهات غير موجودة للحصول على الإجازات المرضية، أو البدلات المخصصة نظاماً لذوي الحاجات الخاصة، أو نفي الموجود منها لإثبات صلاحية الفرد لمزاولة العمل.

 

ومن أمثلة تزوير الأطباء المتسبب في ضياع الحقوق وحصول الضررما يلي:

1ـ شهادة الطبيب زوراً بأن المجني عليه لم يتعرض للضرب أو لم تكن الجروح نتيجة اعتداء تحرم المجني عليه من حقه في القصاص أو الدية.

2ـ شهادة الطبيب زوراً بأن الجاني مجنون، أو يعاني من مرض نفسي حال ارتكابه الجناية، وبالتالي فهو غير مؤهل شرعاً للعقوبة، وتجرّم المجني عليه أيضاً بالقصاص أو الدية.

3ـ شهادة الطبيب زوراً بناء على طلب الورثة بأن صاحب المال فاقد الأهلية، وبالتالي يحق للورثة الحجر عليه شرعاً، ومن ثم يحرم صاحب المال من حقه في التصرف بما يملك، وتعطي الورثة الحق في التصرف بما لا يملكون.

4ـ شهادة الطبيب زوراً بأن الإجهاض تلقائي وليس جنائي، مما يشجع الجناة على الاستمرار في الجريمة، ويحرم الأجنة من حقهم في الحياة.

5ـ شهادة الطبيب زوراً بخلو الفرد من الأمراض المعدية والمؤثرة، مما يسهم في انتشارها، ويحرم المجتمع من العيش في بيئة صحية آمنة.

6ـ شهادة الطبيب زوراً لزميله أو كتمانه الحق في مخالفته شيئاً من الالتزامات الطبية مما يضيع حق المرضى في الضمان أو القصاص ويسهم في المزيد من الإهمال وعدم المبالاة بأرواح الناس وأبدانهم.

 

وعليه، فهناك بعض القواعد الأخلاقية التي نصت عليها بعض الأنظمة مما يجب على الطبيب التزامه بها عند كتابة التقارير الطبية؛ حرصاً على سلامة المحرّر من الزيف والتزوير، ومن الاستغلال والحيلة، ولئلا يكون هذا المحرَّر سبباً لملاحقة الطبيب نظاما، وهي:

1ـ لايعطي الشهادة إلا للمريض نفسه فيما عدا التقرير الطبي عن إصابة فيعطى للجهات المسؤولة، وكذلك إذا كان المريض قاصراً فتعطى للشخص المسؤول عنه شرعاً ولياً كان أو وصياً، وعلى الطبيب أن يكون على دراية تامة بما يراد الوصول إليه من ذلك التقرير.

2ـ يجب أن تحتوي الشهادة على الحقائق والمعلومات الصادقة عن المريض وحالته المرضية، وألا يضاف إليها أي عبارة أو معلومات تملى على الطبيب من المريض أو أقاربه.

3ـ على الطبيب التأكد من شخصية الشخص المحررة له الشهادة خاصة في مسألة إثبات العمر، وقد رؤي أن تضاف بصمة الشخص المراد بيان عمره بالشهادة.

4ـ لا تعطى الشهادة إلا بعد إجراء الكشف الطبي الدقيق على طالب الشهادة، وفي حالة تقرير الإصابة فإن مغايرة الحقيقة تعتبر من شهادة الزور.

 

وتوصف فقهاً جريمة شهادة الزور الواقعة من الطبيب على النحو الآتي:

إذا لم يترتب على شهادة الطبيب ضرر أو تستر على مجرم فجريمته شهادة زور فقط، وشهادة الزور ليست بالأمر الهين؛ حيث وصفها بعض أهل العلم بأنها من السعي في الأرض فساداً، وسمى شاهد الزور محارباً، وكيف لا يكون كذلك، وهو من الساعين في الأرض بالفساد، بل هو أعظم من المحاربين؛ لإمكان الاحتراز منهم.

لكن أمرها يعظم إن ترتب عليها وقوع شيء من الضرر، وهو في الغالب لا ينفك عنها؛ كما لو نفى الطبيب بشهادته زوراً الجناية عن الجاني الحقيقي الذي عرفه من خلال المعاينة، والفحص لأدلة الإثبات، وآثار الجريمة على جسد المجني عليه، فإنه قد ضم إلى التزوير والكذب جريمة أخرى، وهي التستر على الجاني، وتضييع حق المجني عليه في الاقتصاص، مما يشجع الجناة على الفساد والإفساد والإثم والعدوان، ويفقد ثقة المجني عليهم في عدالة الأحكام ونزاهتها، فإن جمع الطبيب إلى التستر على المجرم الحقيقي اتهام غيره من الأبرياء فجريمتان: التستر على الجناة الحقيقيين، مع إلصاق التهمة بغيرهم من الأبرياء.

فإن أدى هذا الاتهام إلى قتل مظلوم؛ كالطبيب الشرعي الذي يشهد زوراً بوجود بصمات بريء على المجني عليه، فيقتل البريء بهذه الشهادة، فشاهد الزور في هذه المسألة متسبب بالقتل، ومثله في التسبب: من يشهد على البريء المحصن بزنا، أو يشهد عليه باغتصاب فيقتل المتهم ظلماً بسبب هذه الشهادة.

 

وعموماً فإضرار الطبيب بالبريء عن طريق شهادة الزور يوصف بكونه جناية عمدية، يعاقب عليها بالعقوبة الحدية إن ألحق بالمتهم عقوبة حدية؛ كالقتل والزنا، وبالعقوبة التعزيرية إن شهد ظلماً بجريمةٍ لا حد فيها؛ كالضرب واللواط، والجريمة من الطبيب هنا جريمتان:

الأولى: شهادة الزور.

الثانية: ما ترتب على شهادة الطبيب من ضرر.

فإذا لم يُقم الحد بناءً على شهادة الطبيب زوراً بالزنا لظهور براءة المدعى عليه، أو إمكانية التعرف على الجاني الحقيقي بأدلة أخرى فالطبيب قاذف.

فإن كانت الشهادة من الطبيب نظير مبلغ مالي متفق عليه سلفاً فهو مرتش، وجريمته رشوة.

المراجع

• نوازل الجرائم الطبية (رسالة دكتوراه ـ الفقه ـ كلية الشريعة بالرياض)، د. أمل الدباسي (176).
• جرائم التزوير في المملكة العربية السعودية، د. أحمد مرعي.
• التزوير في الشهادات الطبية، د. سعاد عمير.

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى