قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب الجنايات

جناية المريض النفسي

مسألة رقم 247

العناوين المرادفة

1. تصرفات المعاق عقليا.
2. محاسبة المريض النفسي.
3. مسؤولية المريض النفسي.
4. تصرفات المريض النفسي.
5. اعتداءات المريض النفسي.
6. آثار تصرفات المريض النفسي.

صورة المسألة

قد يقوم المريض النفسي بجناية على نفسه أو يستهدف بها الآخرين، فهل تترتب على هذه الجناية الآثار الشرعية مع معاناة الجاني بمرض نفسي يؤثر في كثير من الأحيان على الإدراك والفهم؟
وبعبارة أخرى: هل يؤثر المرض النفسي في أهلية المريض للتكاليف الشرعية؟
تعرّف الأمراض النفسية بأنها: “مجموعة متعددة المظاهر من الاضطرابات والانفعالات التي تحدث في كيان الشخصية، وتخل بوظائفها، وتتشابه هذه الاضطرابات والانفعالات في أنها لا تتسب عن سبب عضوي معين في الجسم، وأنها تقترن غالبا بأسباب وعوامل نفسية المنشأ، وفي الدرجات الشديدة يختل الفكر والسلوك، وعندئذ يدخل المرض في حدود الأمراض العقلية”( )
ويلاحظ في التعريف أمران:
1. أن المرض النفسي هو اضطراب نفسي تنتج عنه معاناة المريض ومن حوله من خلال سلوكياته وتصرفاته غير المتزنة، ولا يعود ذلك إلى أسباب عضوية.
2. أن المرض النفسي على درجات متفاوتة، فمنه ما يكون خفيفا لا يُفقد الإدراك والوظائف المعرفية، ومنه الشديد الذي تختل معه وظائف الإدراك.

حكم المسألة

إن الجناية الحاصلة من المريض النفسي إما أن تكون على نفسه أو غيره، ومن ثم يكون بيان الحكم في حالتين:

الأولى: جنايته على نفسه.

ولها صورتان:

الأولى: أن يؤدي ذلك إلى إتلاف النفس (الانتحار).

وقد أكدت الدراسات الغربية أن نسبة 90% من المنتحرين كانوا يعانون من الأمراض النفسية، ومن أخطرها: الاكتئاب والفصام باعتبار أن من يعاني من أحدهما قد يتوهم أصواتا تطالبه بالانتحار، أو اللحاق بأحبابه الموتى، أو تسبب له الذعر فيقفز من مكان عال، أو يتناول دواء قاتلا.

فلا يجوز للمريض النفسي الانتحار تحت أي ظرف من الظروف، وقد سبق بيان تحريم الانتحار في المسألة الأولى “تفجير المسلم نفسه بقصد الانتحار”([1]) بالنص والإجماع، وأن هذا الفعل يؤدي إلى مآلات خطيرة في دينه وأخراه.

ولكن إذا حصل منه الانتحار، فإن تكييف الجناية يختلف باختلاف حاله:

فإن كان المرض النفسي لا يؤثر في الإدراك – مثل الوسواس القهري أو اضطرابات النوم – كان القتل من قبيل العمد؛ لأن هذا النوع لا يؤثر في الاختيار فلا يرفع التكليف، ومن ثم يتناوله من الأحكام ما ينطبق على قاتل نفسه من الصلاة عليه، وقبول توبته…

وأما إذا كان المرض النفسي يؤثر في الإدراك – كالفصام الحاد والاكتئاب الذهاني الشديد – كان قتله لنفسه خطأ؛ لأنه في حكم المجنون، وعمد المجنون خطأ باتفاق.

 

الصورة الثانية: أن تكون جنايته على نفسه فيما دون النفس

قد يرتكب المريض النفسي أفعالا إجرامية بحق نفسه نتيجة شعوره بالإثم إزاء بعض التصرفات الصادرة منه؛ فيقطع بعض أعضائه باعتبارها مصدرا للخطايا، أو بما يخيل إليه من أن بعض أطرافه تطول, أو تتأثر بعض أعضائه أثناء محاولته للانتحار.

وحكم هذه الحالة يرجع إلى طبيعة المرض النفسي، وبيان ذلك في صورتين:

الأولى: أن يكون المرض النفسي خفيفا لا يُفقِد الإدراك، وحينئذ يجب على القاضي تعزيره بما يراه مناسبا لجريمته؛ لأن القصاص إذا سقط لكون الجناية واقعة على نفسه شُرع في حقه التعزير لوجود موجبه.

الثانية: أن يكون المرض النفسي شديدا يؤدي إلى فقدان الإدراك وقت الجناية، ويشرع في هذه الحالة أن يؤدبه القاضي بما يكف أذاه عن نفسه، ولا يعزره؛ وذلك تخريجا على اتفاق الفقهاء – رحمهم الله تعالى – في حكم المجنون إذا جنى على نفسه أنه يؤدب بما يردعه عن الأذية، ولا يعزر؛ وذلك لما يلي:

  1. أن التعزير لا يكون إلا عن معصية، وفعل المريض النفسي لا يوصف بالمعصية طالما هو فاقد للإدراك، والحكم المعلّق على سبب يتحقق وجوده على تقدير وجود السبب.
  2. أن العقوبات مشروعة لتحقيق الزجر، والمريض النفسي يفقد الإدراك، فلا تحقق العقوبة في حقه الردع لانتفاء وسيلته، وهو الإدراك.

الحالة الثانية: جناية المريض النفسي على غيره

كثير من الأمراض النفسية لا تسبب الجريمة؛ ولكن قد تؤدي في بعض الحالات إلى الجناية على الغير – مثل حالات الهلاوس والضلالات – التي يعتقد فيها المريض النفسي أنه سيهاجم أو يؤذي ممن يتوهمهم أعداء، أو يسمع أصواتا تسبّه وتحقره، فيثور وتحصل منه ردة الفعل.

 

وهذه الحالة لها صورتان:

الأولى: أن تكون الجناية على النفس، وبيان الحكم في هذه الحالة كسابقتها؛ وذلك أن المرض النفسي بالنظر إلى تأثيره في الإدراك ينقسم إلى نوعين:

الأول: أن ينتفي تأثيره على الإدراك وقدرته على تحكيم إرادته – كالاكتئاب البسيط والوسواس القهري واضطرابات الهلع – فتكون جنايته على غيره في هذه الحالة موجبة للقصاص إذا تحقق فيه سائر شروطه من عصمة المقتول ومكافأته، وانتفاء الاشتراك عند من يراه….؛ لأنه عاقل بالغ قاصد للجناية، فوجب أن يترتب على فعله آثاره من القصاص أو الدية.

الثاني: أن يؤثر المرض النفسي على إدراكه، فلا يتحكم في ضبط تصرفاته؛ وذلك مثل: الفصام، والغيرة المرضية، والانهيار العصبي أو القلق الحاد، فلا قصاص عليه في جميع هذه الصور؛ لأنه كالمجنون في فقد الأهلية، والمجنون لا يقتص منه باتفاق الفقهاء.

ويدل على ذلك أمور:

  1. قول النبي – ﷺ – : (رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) [أخرجه أحمد برقم: (940) 2/254، وأبو داود برقم : (4410) 4/140، والحاكم في المستدرك برقم: (949) 1/381، وصححه على شرط الشيخين].

وجه الدلالة: أن التكليف ساقط عن المجنون، والمريض النفسي في معناه.

  1. ولما روي عن معاوية – رضي الله عنه – لما كتب إليه مروان أنه أتي له بمجنون قتل رجلا فكتب إليه: “أن اعقله، ولا تقد منه، فإنه ليس على مجنون قود” [أخرجه مالك في الموطأ برقم: (1549) 2/851، والبيهقي في سننه برقم: (16411) 8/68، قال ابن جزم: “لا يصح؛ لأن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يولد إلا بعد موت معاوية”([2])]
  2. ولأن الأصل أن ما تعلق بحقوق الأبدان لا يجب على غير المكلف كالصلاة والصيام، وكذلك المريض النفسي غير مكلف، فلا يجب عليه ما يتعلق بحقوق الأبدان.

 

الصورة الثانية: جناية المريض النفسي على غيره فيما دون النفس.

إذا جنى المريض النفسي على غيره فيما دون النفس، فقطع طرفه أو جرحه بناء على أصوات وهلاوس سمعية تأمره بالاعتداء على من يعتقدهم أعداء أو نحو ذلك، فإنه في هذه الصورة في حكم المجنون لا توجب جنايته القصاص، وإنما توجب الدية على عاقلته؛ وذلك لما سبق من الأدلة.

وأما ما أتلفه من مال غيره، فلا يخلو الأمر من إحدى حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون بتفريط من المالك، كما لو رأى المريض الذهاني يلعب بالنار قرب ممتلكاته أو يحمل سلاحا يهدد به مواشيه، فتركه المالك دون أن يعمل ما هو لازم لمنعه من التعدي.

وهذه الحالة تخرج على مسألة ضمان المجنون إذا تعدى على مال الغير بتفريط منه، وقد اختلفوا فيها على اتجاهين:

الاتجاه الأول: لا يضمن ما أتلفه، وهو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، وقول عند الشافعية، ومقتضى ذلك: أن المريض النفسي لا يضمن ما أتلفه من الغير إذا تم ذلك باختياره، واستدلوا على ذلك بما يلي:

  1. قوله – عليه الصلاة والسلام – : (رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) [أخرجه أحمد برقم: (940) 2/254، وأبو داود برقم : (4410) 4/140، والحاكم في المستدرك برقم: (949) 1/381، وصححه على شرط الشيخين].

وجه الدلالة: أن المجنون غير مكلف بنص الحديث، ومن ثم فلا يؤاخذ على جنايته في المال إذا سلطه عليه المالك، والمريض النفسي في معناه.

  1. ولأن المالك مكّنه في الإتلاف بالإذن مع العلم بحاله، والإذن في الإتلاف ينافي الضمان.

الاتجاه الثاني: أنه يضمن ما أتلفه من مال الغير، ولو كان بتفريط صاحبه، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وقول عند الشافعية، وقال به بعض الحنابلة، ومقتضى ذلك: أن المريض النفسي يضمن مطلقا.

واستدلوا: أن ضمان الاستهلاك ضمان فعل، والمجنون وغيره فيه سواء.

 

الحالة الثانية: أن يكون الإتلاف من المجنون من غير تفريط من المالك، وقد اختلفوا فيها على اتجاهين:

الاتجاه الأول: يلزمه الضمان، وهو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ومقتضاه: أن المريض النفسي يلزمه ضمان ما أتلفه من غير تفريط صاحب المال.

واستدلوا على ذلك: أن لزوم الضمان بالإتلاف من باب خطاب الوضع، وخطاب الوضع ثابت في حقه بالإجماع؛ لأنه من قبيل ترتيب الحكم على سببه؛ وذلك يستوي فيه المكلف وغيره.

الاتجاه الثاني: أن إتلاف المجنون في المال هدر لا ضمان فيه، وهذا قول عند المالكية، ومقتضى ذلك: أن ما يتلفه المريض النفسي هدر لا ضمان فيه.

واستدلوا على ذلك بعموم قوله – عليه الصلاة والسلام – : (رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) [أخرجه أحمد برقم: (940) 2/254، وأبو داود برقم : (4410) 4/140، والحاكم في المستدرك برقم: (949) 1/381، وصححه على شرط الشيخين].


([1]) راجع المسألة في ص:

([2]) المحلى بالآثار 10/218.

المراجع

1. آثار تصرفات المرضي النفسيين، د.هاني الجبير، موقع: بحوث:
(www.islamtoday.net)
2. أثر المرض النفسي في العقوبة – دراسة فقهية مقارنة، لعواطف بنت ناصر الخريصي، ماجستير بكلية التربية-جامعة الملك سعود عام: 1423هـ الموافق: 2002 م.
3. أثر المرض النفسي في رفع المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، لجمال عبدالله لافي، ماجستير بقسم الفقه المقارن، كلية الشريعة – الجامعة الإسلامية – غزة.
4. أحكام المريض النفسي في الفقه الإسلامي للدكتورة خلود بنت عبدالرحمن المهيزع.
5. بدائع الصنائع لعلاء الدين أبوبكر بن مسعود الكاساني (ت 587هـ).
6. البيان والتحصيل لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد (ت 520هـ).
7. التاج والإكليل لمختصر خليل لمحمد بن يوسف الموّاق (ت 897 هـ).
8. الحاوي الكبير لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (ت 450هـ).
9. روضة الطالبين وعمدة المفتين لأبي زكريا محي الدين النووي (ت676 هـ).
10. المبدع في شرح المقنع لإبراهيم بن محمد بن مفلح (ت 884هـ) المبسوط لمحمد بن أحمد السرخسي (ت 483 هـ).
11. المحلى بالآثار لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (ت 456هـ).
12. المغني لأبي محمد موفق الدين بن قدامة (ت 620 هـ).

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى