قسم الفقه الطّبيباب الإجهاض

إجهاض جنين الاغتصاب

المسألة رقم 5

صورة المسألة

ويتصور ذلك فيما لو قام رجل باغتصاب امرأة فحملت ورغبت في التخلص من هذا الحمل، طلبا للستر ودفعا للعار، أو عدم رغبة في تحمل مسؤولية هذا الولد.

حكم المسألة

جرى في إجهاض جنين الاغتصاب ما جرى في الإجهاض عموما من الاختلاف في المرحلتين: ما قبل نفخ الروح وما بعد ذلك، وفيما يلي اختصار كلام الفقهاء في ذلك:

أولاً: إجهاض جنين الاغتصاب قبل نفخ الروح فيه:

القول الأول: يمكن القول بأن جمهور الفقهاءعلى إباحة إجهاض جنين الاغتصاب في الأربعين يوما الأولى من الحمل.

الأدلـــة:يمكن أن يستدل لهذا القول بما يأتي:

أولاً:قوله تعالى: ]ألم يك نطفة من مني يمنى. ثم كان علقة فخلق فسوى[القيامة (37،38 ).

فقد دلت الآيات السابقة على أن النطفة لا تخليق فيها، وإذا لم يكن فيها تخليق؛ فإنها ليست بشيء؛ فيجوز إسقاطها، وقد ورد الحديث ببيان مدة بقاء النطفة في قوله ﷺ :«يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة…»(أخرجه البخاري (ح 3036)،ومسلم (ح 2643). فجاز إسقاطه في الأربعين ما دام نطفة.

ثانيًا: أن الجنين ما لم يتخلق، فليس بآدمي، وإذا لم يكن آدميًا فلا حرمة له، فيجوز إجهاضه.

ثالثًا: أن هذا ما تؤيده القواعد الشرعية، مثل قاعدة: الضرر يزال، وقاعدة: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، ونحو ذلك من القواعد، وعند النظر إلى حال هذه الأم المرأة المغتصبة، وما يسببه لها هذا الحمل من ضرر نفسي، وبدني، واجتماعي، وما قد يترتب عليه من آثار سيئة على المجتمع، وعلى الأمة؛ نجد أن هذه الأضرار المترتبة على بقائه أكبر بكثير من ضرر إسقاطه في هذه الفترة قبل تصوره؛ فيزال الضرر الأشد بارتكاب الأخف.

هذا فيما يتعلق بالأربعين الأولى من الحمل، وغالبًا ما يتبين الحمل في هذه الفترة، خاصة مع وجود الإمكانات الطبية الحديثة، أما ما بعد الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ فإن الأمر لا يختلف من حيث الضرر الواقع باستمرار هذا الحمل، وإن كان الحمل قد انتقل إلى مراحل أخرى هي العلقة، ثم المضغة، وهي بداية التصوير، والتخلق؛ فيكون الأمر أشد، والاجتهاد أصعب، خاصة بعد مرحلة العلقة، وبداية المضغة- أي بعد الثمانين يومًا– وهي بداية التخلق للجنين، كما يستفاد من الآية، والحديث.

ومن ثم انقسم الفقهاء فيما بعد الأربعين إلى فريقين: فمنهم من منع الإجهاض بعد ذلك لبدء التخليق فيه كما تقدم.

 

والفريق الثاني أجازه بعد الأربعين إلى وقت نفخ الروح، ويمكن أن يستدل لإباحة إجهاض جنين الاغتصاب في هذه الفترة من الحمل بما يأتي:

الدليل الأول:أن من لم تنفخ فيه الروح؛ فليس بآدمي، وإذا كان كذلك؛ فلا حرمة له؛ فجاز إجهاضه.

الدليل الثاني:أن بعض الفقهاء ذكروا من الأعذار ما هو أدنى من الاغتصاب، مثل أن يخاف على الرضيع من انقطاع لبن الأم بالحمل، وليس عنده ما يستأجر به مرضعة؛ فيجوز إجهاض الجنين الشرعي بذلك؛ فمن باب أولى أن يجوز في حال الاغتصاب؛ لما يترتب عليه من مفاسد.

الدليل الثالث: أن المرأة لا يد لها في هذه الجريمة، وقد أمكن التخفيف من آثارها على هذه المرأة بالإجهاض قبل نفخ الروح؛ فيجوز ذلك.

 

ثانيًا: إجهاض جنين الاغتصاب بعد نفخ الروح فيه:

قد لا تتمكن المرأة المغتصبة من إجهاض هذا الحمل في الأربعة الأشهر الأولى؛ لكونها أسيرة مثلًا، أو مريضة، أو غير ذلك من الأعذار؛ فيبقى الحمل حتى تنفخ فيه الروح، وفي هذه الحالة يكون قد أصبح نفسًا لها حقها في الحياة بنفخ الروح فيه، فهل يجوز إجهاضه بعذر الاغتصاب بعد هذه المدة؟

اتفق العلماء رحمهم الله على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين مطلقًا، ولم يفرقوا بين حالوحال، إلا إذا تعرضت حياة الأم للخطر، وخيف عليها الهلاك؛ فقد اختلفوا في جواز إسقاط الجنين في هذه الحال على قولين سيأتي ذكرهما بعد قليل.

وكلام الفقهاء رحمهم الله ينطبق على جنين الاغتصاب أيضًا، وإلم يشيروا إليه، وإنما أطلقوا الكلام، ولم يخصوا حملًا عن حمل؛ وذلك أن تأخير المغتصبة إجهاض هذا الحمل إلى هذه المدة – وإن كان لعذر – يدل على أنها تستطيع تحمل هذا الأمر، وحينئذ عليها أن تصبر، وتحتسب بقية المدة؛ لكون الجنين قد نفخت فيه الروح بعد مائة وعشرين يومًا من الحمل – كما دلت على ذلك الأدلة- فيكون نفسًا آدمية، والآدمي لا يحل قتله بغير سبب شرعي، وعذر الاغتصاب وما قد يرافق الحمل من مفاسد يمكن للمرأة تحملها لا يكون مسوغًا للاعتداء على هذا الجنين، ولقتل نفس لا ذنب لها، ولا يد لها في هذه الجريمة، ولا يمكن أن يوازن بين مفسدة قتل النفس، وتلك المفاسد المترتبة على الاغتصاب، ما لم تؤد إلى هلاك الأم المحقق، وذلك لعظم الاعتداء على النفس الإنسانية، فلا يجرؤ أحد على القول بقتل نفس من أجل أمور قدرها الله على هذه المرأة، فوجب عليها الصبر، والاحتساب، والتسليم لقضاء الله، والرضا به، وعلى أوليائهاومجتمعها الذي تعيش فيه أن يساعد هذه المرأة على تجاوز هذه المحنة، والتخفيف من آثار هذه الجريمة على نفسها بالرعاية لها، والعناية بها، وتحمل تكاليف الحمل المادية عن الأم، والمسارعة من الشباب إلى الزواج بمثل هؤلاء النساء إذا كن غير متزوجات، فلا ذنب لهن في هذه الجريمة؛ فإذا أحست المرأة بوقوف المجتمع معها، وأحست بالتكاتف لتجاوز هذه المحنة، خف على نفسها هذا المصاب، وقلل ذلك من معاناتها.

أما إذا كان هذا الحمل يعرض حياة الأم للخطر المحقق من جراء المعاناة النفسية التي قد تصيبها بسبب هذا الاغتصاب، أو تعيير المجتمع لها، أو لكون الحمل يذكرها بما حصل لها، وتزداد حالتها سوءًا بتقدم الحمل، وخيف عليها الهلاك، أو أن تصاب بمرض عقلي يفقدها عقلها، ونحو ذلك، حينئذ تكون ضرورة واقعة فعلًا، أو متحققة الوقوع، فتخرج المسألة بذلك من قضية إجهاض الجنين بعذر الاغتصاب وحده، إلى مسألة الإجهاض العلاجي لمصلحة الأم، ويجري فيها خلاف العلماء التالي، وهو عين الخلاف في جواز إجهاض الجنين عمومًا بعد نفخ الروح فيه إذا خيف هلاك الأم، بشرط أن تتوافر شروط الضرورة، من أن تكون الضرورة متحققة الوقوع لا محتملة، ويغلب على الظن هلاك الأم، وألا يكون هناك وسيلة مباحة غير الإجهاض لإنقاذ حياة الأم.

 

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم إجهاض الجنين في هذه الحال على قولين:

القول الأول: تحريم إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، ولو تعارضت حياته مع حياة أمه، ومهما كانت الأعذار والمسوغات.

القول الثاني: ذهب أكثر الفقهاء المعاصرين إلى جواز إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، إذا كان ذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذ حياة أمه من الهلاك المحقق، بل إن بعضهم أوجب ذلك، وهذا ما صدر عن بعض المجامع، واللجان الفقهية، مثل اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، واللجنة العلمية للموسوعة الفقهية الكويتية.

الأدلـــــة:

أدلة أصحاب القول الأول:

الدليل الأول:حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».أخرجه مسلم (ح 1676).

فالنبي ﷺ أخبر في هذا الحديث بحرمة دم المسلم، إلا إذا ارتكب شيئا يهدر دمه مما ذكر، والجنين نفس مسلمة حكمًا،ومعصومة، ولا يتصور منها ما ذكر؛ فلا يجوز إجهاضه بعد نفخ الروح لحماية الأم من خطر أحدق بها.

الدليل الثاني:إجماع الفقهاء رحمهم الله على أنه لا يحل للمضطر أن يقتل غيره لإنقاذ نفسه من الهلاك المحقق؛ لأنه مثله، فلا يجوز له أن يبقي نفسه بإتلاف غيره، وهذا مثله، حيث أن الجنين بعد نفخ الروح فيه يعد نفسًا مستقلة قد علمت حياته؛ فحرم الاعتداء عليه بالإجهاض؛ لإنقاذ حياة أمه.

الدليل الثالث: أن إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه قتل له، والقتل من كبائر الذنوب، وإذا مات بموت أمه؛ فهذا من الله، وهو الذي قدر هذا؛ فلا يجوز الإقدام على الإجهاض حتى لو أدى ذلك إلى موت الأم؛ لأن هذا قدر الله تعالى.

أدلة أصحاب القول الثاني:

الدليل الأول:أن الفقهاء رحمهم الله منعوا هتك حرمة جسد الأم وهي ميتة، ولو كان الجنين حيًا في بطنها؛ فضحوا به مراعاة لحرمة الجسد الميت؛ فإذا كان كذلك، فإن الحفاظ على حياةالأم إذا كان في بقاء الجنين خطر عليها أولى بالاعتبار؛ لأن حياة الأم ثابتة بيقين، وحياة الجنين غير متيقنة.

فقد نقل عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قيل له: إن سفيان الثوري سئل عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد يتحرك؟ قال: ما أرى بأسًا أن يشق.

قال أحمد: بئس والله ما قال – يردد ذلك – سبحان الله بئس ما قال.

الدليل الثاني:أن الأم هي الأصل، والجنين تابع لها؛ وذلك أن حياة الأم مستقلة، وحياة الجنين مرتبطة بحياة أمه؛ فهو تابع لها؛ فإذا كان يترتب على بقاء الجنين التابع موت الأم وهي الأصل، فالمحافظة على الأصل أولى من المحافظة على التابع، فهو بمنـزلة العضو من أعضائها يجوز قطعه إذا عاد بالضرر على سائر البدن.

الدليل الثالث: الأم هي عماد الأسرة، وبموتها تهتز دعائم تلك الأسرة، ويتعرض أطفالها، وزوجها لمصاعب كثيرة، بخلاف الجنين فلا تعلق لأحد به، وخصوصًا إذا كان من اغتصاب لهذه المرأة.

الدليل الرابع: أن إمكانية إنقاذ حياة الأم أكبر من إمكانية إنقاذ حياة الجنين بتركه، لاحتمال هلاكه بهلاك أمه، فهو في الغالب هالك على كلا الاحتمالين؛ لذا تعطى الأولوية لإنقاذ حياة الأم لأنها أقربوآكد.

الدليل الخامس: أن هذا الجنين بعد موت أمه إذا قدر خروجه حيًا تكون حياته معرضة للخطر؛ لأنه ربما لا يجد من يهتم به، وبشؤونه من حضانة، ورضاعة، وغيرها سيما وأنه ناتج عن اغتصاب لتلك الأم؛ فلا يعرف له أب، ولا عصبة ترعاه.

 

قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العلم الإسلامي بشأن موضوع إسقاط الجنين المشوه خلقيًّا.

“…إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الثانيةعشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم السبت 15 رجب 1410إلى يوم السبت 22 رجب 1410قد نظر في هذاالموضوع، وبعد مناقشته من قبل هيئة المجلس الموقرة، ومن قبل أصحاب السعادة الأطباءالمختصين، الذين حضروا لهذا الغرض، قرر بالأكثرية ما يلي:

– إذا كان الحمل قدبلغ مائة وعشرين يومًا، فلا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوهالخلقة، إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية، من الأطباء الثقات المختصين، أن بقاء الحملفيه خطر مؤكد على حياة الأم، فعندئذ يجوز إسقاطه، سواء أكان مشوهًا أم لا، دفعًالأعظم الضررين.

– قبل مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقريرلجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات- وبناء على الفحوص الفنية، بالأجهزة والوسائلالمختبرية- أن الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا، غير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي وولد فيموعده، ستكون حياته سيئة، وآلامًا عليه وعلى أهله، فعندئذ يجوز إسقاطه بناء على طلبالوالدين.

والمجلس إذ يقرر ذلك: يوصي الأطباء والوالدين، بتقوى الله، والتثبتفي هذا الأمر. والله ولي التوفيق.

المراجع

1- أحكام الجنين في الفقه الإسلامي، لعمر محمد غانم.ط. دار الأندلس الخضراء،جدة، 1421.
2- أحكام الإجهاض في الفقه الإسلامي، لإبراهيم رحيم، ط. مجلة الحكمة، سلسلة إصدارات الحكمة رقم 13.
3- الإجهاض أحكامه وآثاره، د. عبدالرحمن بن حسن النفيسة.
4- الإجهاض دراسة فقهية مقاصدية، د. فريده زوزو.
5- الإجهاض أحكامه وآثاره، لخالد قرقور.
6- الجنين المشوه والأمراض الوراثية، د. محمد علي البار.
7- الإجهاض ونظرة الإسلام إليه د. أحمد الغزالي.
8- التعقيم والإجهاض، د. محمد سلامه مدكور.
9- الإجهاض العمد، د. حسان حتحوت.
10- تنظيم النسل وموقف الشريعة منه، د. عبدالله الطريقي.ط.1 1403.
11- إجهاض جنين الاغتصاب، د. سعد الأسمري، بحث منشور في مجلة: روح القوانين، جامعة طنطا، عدد48، 2009م.
12-قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
13- فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، رقم (2484)،في 16/7/1399.
14-مشكلة الإجهاض، دراسة طبية فقهية، د.محمد علي البار، الدار السعودية – جدة، ط2- 1407
15-حكم الإجهاض في الفقه الإسلامي، د. محمد نعيم ياسين، ضمن كتاب (أبحاث فقهية في قضايا طبية معاصرة)، دار النفائس – الأردن، ط4، 1428هـ

مسائل ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى