قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب مسائل القضاء

أثر التوقيع الإلكتروني في الإثبات

مسألة رقم 168

صورة المسألة

يعدّ التوقيع الإلكتروني واحداً من أهم الوسائل الضرورية التي لا غنى عنها في مجال المعاملات الإلكترونية، وقد جاءت الحاجة إليها نتيجة لاستخدام الحاسب الآلي في إجراء المعاملات وخصوصاً الإنترنت، حيث أصبح اليوم بإمكان الأفراد والمؤسسات وغيرهم إبرام العقود وتبادل البيانات عبر الشبكة العالمية (الإنترنت).
وبما أن التعامل من خلال هذه الشبكة يتم عن بعد بين الأطراف ـ فقد يكون أحد المتعاقدين في دولة، والآخر في دولة أخرى مما يصعب معه الاعتماد على التوقيع التقليدي ـ فإن التوجه السائد اليوم هو الاعتماد على التوقيع الإلكتروني – للتوثيق وحصول الاطمئنان – كبديل للتوقيع التقليدي.
فما حكم الاعتماد عليه في الإثبات؟

حكم المسألة

ذكر بعض الباحثين المعاصرين أن هذه المسألة تحتمل تفصيلاً مفاده:

أولاً: اختلاف الشكل والصورة بين التوقيعين لا يؤثر في الحكم، فلا فرق بين كون التوقيع مكتوباُ على ورقة، أو على وسيط إلكتروني، إذ العبرة هنا في المضمون والمخبر، لا في الشكل والمظهر.

ثانياً: التوقيع التقليدي إنما اكتسب قوته وحجته؛لقيامه بوظيفتين أساسيتين، فهل يمكن للتوقيع الإلكتروني القيام بهاتين الوظيفتين؟ ندرك ذلك من خلال الآتي:

 

الوظيفة الأولى: تحديد شخصية الموقع، وتمييزه عن غيره:

والذي يظهر أن التوقيع الإلكتروني قادر على تحديد شخصية الموقع وتمييزه عن غيره، من خلال تلك الأشكال والرموز والأرقام التي يختص بها صاحبها، فالوظيفة متحققة في التوقيعين إلا أنها في التقليدي تكون موضوعة على محررات ورقية تستلزمها طبيعة الحال؛ إذ المتعاقدان موجودان بأبدانهما في مجلس واحد، أما في العقود التي تبرم عبر وسائل إلكترونية، وبين أشخاص لا يرى بعضهم البعض الآخر فإن التميز يكون من خلال التوقيع الإلكتروني عبر الوسيط الإلكتروني.

 

الوظيفة الثانية: التعبير عن إرادة الموقع بالموافقة على المضمون:

والذي يظهر أن التوقيع الإلكتروني بصوره المختلفة قادر على التعبير عن إرادة الموقع، فالشخص في التوقيع البيومتري لا يضع توقيعه في مجال الصراف الآلي أو في الإنترنت إلا للدخول إلى النظام الآلي الخاص، والقيام بالعملية، وهو بذلك يوافق على مضمون العملية المراد إتمامها، ومثله التوقيع باستخدام البطاقات الممغنطة، فإدخال البطاقة في الفتحة المخصصة لذلك، ثم إدخال الرقم السري الذي يحتفظ به شخصياً على وجه الانفراد، ثم إعطاء الموافقة الصريحة على سحب المبلغ المطلوب، كل ذلك تعبير من الشخص عن رضائه بإجراء العملية دون شك، ولا يمكن لأحد أن يعبر عن إرادته إلا من كان عالماً برقمه السري وهو أمر نادر إلا في حالات الإهمال أو السرقة.

والتوقيع الرقمي يمكن أن يعبر عن إرادة الشخص بصورة تفوق الصور الأخرى من التوقيع الإلكتروني فالشخص الذي يستخدم مفتاحه الخاص ليشفر رسالة معينة، ويقوم مَن تلقى الرسالة بفك التشفير، والتأكد من صحة توقيع هذا الشخص عن طريق اللجوء إلى جهة التصديق للتوقيع هو في الواقع لم يستخدم هذه الطريقة إلا ليعبر عن إرادته في الموافقة على مضمون الرسالة.

ثالثاً: تعتبر قضية ” الدقة والأمان ” في التعاملات المختلفة من أهم ما يؤدي إلى اعتماد تلك التعاملات، والاطمئنان إليها، وعدم التردد في إبرامها، وهذا ما يتحقق بالفعل في التوقيع التقليدي، فحضور المتعاقدين أو وكيلهما عند صياغة المحرر، والتأكد من هوية كل طرف، وأهليته للتعامل، ومن ثم التوقيع على المحرر يجعل ذلك المحرر بمنأى عن العبث والتحريف.

ولذا فإن التوقيع الإلكتروني بمثابة القرينة القوية، التي يحكم بموجبها وتترتب عليها آثارها، فيكون التوقيع الإلكتروني ملزماً لصاحبه بمضمون ما ورد التوقيع عليه، ولا شك أن محاولة الشخص إنكار التوقيع أو التهرب منه أمر في غاية الصعوبة هنا، لأنه عند إجراء التعاملات الإلكترونية يوجد طرف ثالث بين المتعاملين يضفي على المعاملة الإلكترونية قدراً كبيراً من الثقة والأمان، فالتوقيع لا بد أن يتطابق مع رمز التعريف الموجود في الشهادة الإلكترونية التي تعتبر بمثابة الهوية الإلكترونية للشخص، ولا تتم المعاملة إلا بعد التأكد من شخصية صاحب الشهادة.

 

ويؤكد ذلك أمور، منها:

أولاً: عموم الأدلة الدالة على مشروعية العمل بالقرائن القوية.

ثانياً: أن البينة اسم لكل ما يظهر الحق ويبينه من حجة وبرهان ـ بأي وسيلة كانت ـ فيدخل في ذلك العموم التوقيع الإلكتروني.

ثالثاً: القياس على التوقيع التقليدي بجامع أن كلاً منهما يقوم بذات الوظائف ويحقق نفس الأهداف.

رابعاً: اشتمال التوقيع الإلكتروني على العديد من الجوانب الإيجابية التي تراعي مصالح الناس ولا تخالف مقاصد الشريعة، ومن ذلك ما يأتي:

* إتمام المعاملات المالية بسرعة وإتقان وفاعلية ـ كسحب النقود، وسداد الفواتير، والتحويل بين الحسابات ـ من خلال استخدام وسائل الدفع الآلية كجهاز الصراف ونحوه، مما يغني عن تضييع الأوقات الطويل في طوابير الانتظار لإتمام هذه العمليات.

* التقليل من قيمة التكاليف الإدارية، فلم تعد البنوك ـ مثلاًـ بحاجة إلى الأعداد الكبيرة من الموظفين، أو المكاتب ونحو ذلك.

* تقارب الأسواق العالمية، فلم يعد الإنسان في كثير من الحالات بحاجة إلى السفر إلى كل دولة يرغب في شراء سلعة منها، أو التعرف على ما تقوم به بعض الشركات من خدمات، أو الاطلاع على السلع والمنتجات وغير ذلك، مما جعل تداول النقود يتم إلكترونياً بواسطة الإنترنت، حيث يقوم العميل بسداد ديونه بالنقود الإلكترونية، محتفظاً في ذلك بسرية حساباته.

 

إذا اتضح ما تقدم فإن القول باعتبار التوقيع الإلكتروني من القرائن القوية، ومن ثم الحكم بترتب آثاره عليه ليس على إطلاقه، بل إن هناك جملة من الشروط التي نصت عليها أنظمة وقوانين بعض الدول التي تبنت العمل بالتوقيع الإلكتروني، لأن الغرض منها توثيق تلك التعاملات، وحفظ الحقوق للمتعاملين، ويمكن إجمال هذه الشروط في الآتي:

الشرط الأول: أن يكون التوقيع الإلكتروني مرتبطاً ارتباطاً كلياً بالموقع؛ ليتمكن الطرف الثاني من تحديد هويته من خلال توقيعه، ويقصد بالموقع الشخص الحائز على بيانات إنشاء التوقيع، ويوقع عن نفسه أو عمن ينيبه.

الشرط الثاني: أن يكون الموقع وحده هو المسيطر على وسائل إنشاء التوقيع، ويتم ذلك من خلال تفرد الموقع ـ أو من ينيبه ـ من حيازة أداة حفظ المفتاح السري الخاص، ويتضمن ذلك البطاقة الذكية المؤمنة، والرمز السري.

الشرط الثالث: أن يكون التوقيع خاضعاً لشخص الموقع وقت إبرام التوقيع، بمعنى أن يصدر الموقع توقيعه أثناء سريان شهادة التوقيع؛ لأنه من الممكن القيام بسحب التوقيع من الموقع أو وقفه نتيجة لأوامر جهة التوثيق التي تمنح مثل هذه التوقيعات.

الشرط الرابع: أن تتوفر صفة الاستمرار في استخدام التوقيع الإلكتروني، بحيث لا يتمكن الموقع أو غيره من القيام بإحداث أي تعديل أو تغيير على التوقيع.

وقد توجه بعض الباحثين إلى أن الأمان مفقود عند التعامل باستخدام التوقيع الإلكتروني؛ لعدة أمور:

* أن هذه التعاملات وما يماثلها – والتي تكون غالباً من خلال شبكة الإنترنت- قد تتعرض لدخول أشخاص بقصد تعطيل البيانات الموجودة، أو تغييرها وتحريفها والعبث بها.

* كما أن بعض صور هذا التوقيع عرضة للسرقة والتزوير، فالبطاقات الممغنطة ـ مثلاً ـ قد تستخدم من غير أصحابها بعد سرقتها، أو العثور عليها عند تضييع صاحبها لها.

* أضف إلى ذلك أنه بالإمكان القيام بتزوير المسارات الممغنطة الموجودة على بطاقات الصراف ونحوها من خلال تصنيع نماذج مشابهة لتلك البطاقات، أو تغيير بيانات البطاقة الأصلية بعد محو بياناتها الأصلية أو المنتهية صلاحيتها، وتشفيرها ببيانات جديدة على ذلك الشريط.

كما يرى هؤلاء أن مما يساعد على فقدان الثقة بهذا التوقيع ما تنشره الصحف، وتبثه الإذاعات المرئية والمسموعة بين الحين والآخر عن عمليات اختراق لنظم المعلومات، وتزوير للبطاقات، وعمليات قرصنة ولصوصية متكررة، فضلاً عن الحديث المستمر عن إطلاق فيروسات داخل البرامج تؤدي إلى تلويثها وتلفها.

وهذه الملاحظات والمآخذ التي سيقت لتضعيف هذا التوقيع أو التشكيك في قوته -وإن كانت صائبة في كثير من جوانبها – إلا أنه ينبغي أن لا يغلق بها الباب أمام الاستفادة من مثل هذه التقنية التي أتاحت الكثير من التسهيلات للمتعاملين، بل يسعى معها إلى اتخاذ الحلول والإجراءات التي تحقق الهدف المنشود، وهذا ما تم إيجاده بالفعل في كثير من الأنظمة التي ارتضت العمل بالتوقيع الإلكتروني، وما توجه المتعاملون إلى العمل بنظام التشفير من خلال المفتاحين العام والخاص إلا لتحقيق مثل هذا الأمان، ولا لجأ المتعاملون إلى (سلطة الإشهار) والتي من أبرز مهامها التحقق من صحة التواقيع الصادرة من الأطراف إلا لتحقيق مبدأ الثقة والأمان بين المتعاملين، ولا شك أن العاملين في مجال التقنية اليوم يعملون على قدم وساق؛ لإيجاد وسائل فنية وتقنية متقدمة تحقق الأمن، وتضمن الدقة في تحديد من صدر عنه هذا التوقيع، والوثوق فيما يتم بواسطته من تصرفات، وبصفة أساسية في النظام المصرفي، والتجارة الإلكترونية ونحوهما.

وأما ما ذكر من إمكانية تزوير البطاقة، والقيام بتعديل بياناتها فإن مثل النقد متوجه أيضاً إلى التوقيع التقليدي، ومع ذلك لم يؤثر فيه، بل إن إمكانية التزوير للتوقيع التقليدي أيسر وأسهل، ولا يحتاج إلى دراية كبيرة، أو خبرة عالية، ومن ثم يمكن استخدامه في مراحل عدة، وفي أماكن مختلفة، بعكس التزوير في البطاقات الممغنطة فإنه يحتاج إلى الخبرة والدقة، إضافة إلى معرفة الرقم السري ووجود البطاقة معاً، ولا ينبغي أن ننسى أن الرقم السري أو التوقيع الإلكتروني يتم إيقافه وعدم استخدامه بشكل فوري، مما يجعل استخدام مثل هذه البطاقات غير مجد إلا في حالات نادرة، وبهذا تكون أكثر أمناً من التوقيع التقليدي.

المراجع

• القرائن المادية وأثرها في الإثبات (رسالة دكتوراه ـ كلية الشريعة ـ جامعة الإمام) د. زيد القرون (523- 546).
• حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات لعلاء نصيرات ص23.
• إثبات المحرر الإلكتروني للورنس عبيدات ص125.
• قانون التوقيع الإلكتروني لأسامة شتات ص1.
• مدى حجية المحرر الإلكتروني في الإثبات لعبد العزيز المرسى ص29-30، 38.
• التوقيع الإلكتروني لنجوى أبو هيبه ص43، 52-53.
• إثبات التصرفات القانونية التي يتم إبرامها عن طريق الإنترنت لحسن جميعي ص16.
• التوقيع الإلكتروني وجحيته في الإثبات لمنير وممدوح الجنبيهى ص13.
• عقود التجارة الإلكترونية لمحمد أبو الهيجاء ص72.
• أحكام عقود التجارة الإلكترونية لنضال برهم ص173.
• التوقيع الإلكتروني بين التدويل والاقتباس لسعيد قنديل ص70، 107.
• التحكيم بواسطة الإنترنت لمحمد أبو الهيجاء ص84.
• الإثبات التقليدي والإلكتروني لمحمد منصور ص279.
• الوجيز في عقود التجارة الإلكترونية لمحمد المطالقة ص246.

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى