قسم الجنايات والقضاء والعلاقات الدوليةباب مسائل القضاء

أثر البصمة الوراثية في إثبات النسب

مسألة رقم 162

صورة المسألة

هذه المسألة تدخل فيما يُعرف بـمسألة (DNA ودوره في الإثبات)، فنتيجة للتطور العلمي الحديث أصبح بالإمكان من خلال النظر في البصمة الوراثية تحقيق مدى نسبة هذا الأثر لشخص معين، حيث يمكن الاستفادة من البصمة الوراثية في إثبات النسب أو نفيه عند حدوث تنازع على بنوة طفل، أو في الحالات التي يصعب فيها معرفة النسب.
فما أثر هذه الوسيلة في الإثبات الشرعي؟

حكم المسألة

من خلال إدراك ماهية البصمة الوراثية، وما أفاد به أهل الاختصاص من دقة النتائج المأخوذة منها، وأنه من خلالها يمكن التعرف على المشتبه بهم من الجناة والمتهمين، كما يمكن التحقق من نسبة شخص إلى آخر، فإنه يمكن القول بأن البصمة الوراثية تعد قرينة قوية يمكن الاستفادة منها شرعاً في مجال الإثبات في جوانب كثيرة.

ولئن كانت البصمة الوراثية من القرائن القوية إلا أنه ينبغي أن تراعى في ذلك الضوابط المعتبرة شرعاً، والتي من خلالها يحصل التوافق مع ما هو مقرر سلفاً عند أهل العلم.

وهذه المسألة تناولها الكثير من الباحثين المعاصرين بالبحث والتفصيل، وقد رأوا جواز الأخذ بالبصمة الوراثية في إثبات النسب نظراً لما أكده الأطباء والمختصون من دقة نتائج البصمة، دون اعتماده في نفي النسب إذا لم تتطابق نتائج الفحوصات؛ لورود شبهة الخطأ، ولما يأتي.

واستدلوا على مشروعية إثبات النسب بالبصمة الوراثية بأدلةٍ منها:

1-عموم الأدلة الدالة على مشروعية العمل بالقرائن، ولا شك أن البصمة الوراثية من القرائن القوية، فتدخل في ذلك العموم.

2-قياس البصمة الوراثية على القيافة؛ فإذا جاز الحكم بثبوت النسب بناء على قول القافة لاستنادها على علامات ظاهرة أو خفية ـ مبنية على الفراسة والمعرفة والخبرة في إدراك الشبه الحاصل بين الآباء والأبناء، فإن الأخذ بنتائج الفحص بالبصمة الوراثية والحكم بثبوت النسب بناء على قول الخبراء أقل أحواله أن يكون مساوياً للحكم بقول القافة، إن لم تكن البصمة أولى بالأخذ بها؛ لاعتمادها على أدلة خفية محسوسة من خلال الفحوصات المخبرية، والبحث في المورثات الجينية المستقرة في نواة الخلية البشرية لإثبات الشبه.

وهذا الشبه في البصمة يتميز في دلالته على النسب بالدقة والتطابق بناء على ما تحمله البصمة من أوصاف جينية خاصة بكل فرد من بني الإنسان، وينتقل بعضها عن طريق الوراثة فقط من الآباء إلى الأبناء.

3-تحصيل المصلحة المشروعة؛ وذلك أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وفي القول بإثبات النسب بالبصمة الوراثية تحصيل لمصلحة ظاهرة، ودرء لمفسدة قائمة، وهي انتماء الولد إلى أب شرعي وعدم ضياعه، أو نسبته لمن لا ينتمي إليه زوراً وبهتاناً.

4- التمسك بالبراءة الأصلية؛ ذلك أن الأصل في كل ما يستجد من أمور مما لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة، أو لم ينقل فيه إجماع يدل على منعه، أنه يحكم بإباحته وجوازه، والبصمة الوراثية واحدة من هذه الأمور المستجدة فيكون إثبات النسب بها مما لا بأس به تمسكاً بالأصل.

والقول بجواز اعتبار البصمة الوراثية طريقاً من طرق إثبات النسب في هذا العصر ليس على إطلاقه، بل إن هناك جملة من الضوابط التى رآها بعض الباحثين ـ وإن كانت ليست محل اتفاق بين الجميع ـ وهي على النحو التالي:

أولاً: أن يكون استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب لا في نفيه؛ لأن الشارع الحكيم يتشوف إلى إثبات النسب؛ ولذلك شرع جملة من الطرق لإثباته، بينما حصر نفيه بطريق واحد فقط وهو اللعان، فلا يلجأ حينئذ إلى غيره عند إرادة نفي الولد، حتى لا يفتح الباب أمام الناس فتثور الفتن والشكوك.

وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى جواز الأخذ بالبصمة الوراثية والاكتفاء بها عن اللعان إذا دلت نتائجها على انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه وعللوا ذلك بما يلي:

أن الزوج إنما يلجأ إلى اللعان لنفي النسب عند فقد من يشهد له بما رمى به زوجته، وحيث إن الفحص من خلال البصمة الوراثية قد يدل على صحة قول الزوج، فإنها تكون بمثابة الشهود التي تدل على صدق الزوج فيما يدعيه على زوجته في حال ثبوت انتفاء النسب بين الزوج والمولود على فراشه من خلال نتائج البصمة الوراثية.

وجمهور الفقهاء على بطلان هذا القول بدليل أن هلال بن أمية – رضي الله عنه – لما لاعن امرأته فجاءت بالولد على الوجه المكروه، أي شبيهاً بمن رميت به قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) [رواه البخاري ( 24747)]، والمقصود لولا ما مضى من أيمان اللعان، فدل ذلك على أنه لا التفات للقرائن مع وجود اللعان؛ لذلك جاء في توصية المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشر: (أنه لا يجوز استعمال البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان).

غير أن الحاكم الشرعي يجدر به أن يستفيد من هذه التقنية المتطورة وإجراء الفحوصات المخبرية للبصمة الوراثية للاستعانة بها كقرينة من القرائن التي يستعان بها على التحقق من صحة دعوى الزوج أو عدمها، بغرض الحيلولة دون وقوع اللعان قدر المستطاع لحض الشارع على درء ذلك ومنعه، وتشوفه لاتصال الأنساب وبقاء الحياة الزوجية.

ثانياً: ألا تستخدم البصمة الوراثية في التأكد من نسب ثابت؛ لأن استخدامها في مثل هذا يؤدي إلى التشكيك في أنساب الناس، وينشر سوء الظن بين الأزواج، ويقوي الريبة بين أفراد المجتمع.

وقد دلت قواعد الشرع على أنه لا يجوز محاولة التأكد من صحة النسب بعد ثبوته شرعاً؛لاتفاق الشرائع السماوية على حفظ الضروريات للحياة الإنسانية، ومنها حفظ النسل والعرض، ولما جاءت به الشريعة المباركة من جلب للمصالح ودرء للمفاسد.

ثالثاً: ألا تستخدم البصمة الوراثية بديلاً عن الوسائل المنصوص عليها، فتقدم الوسائل والطرق المنصوص عليها في إثبات النسب ولا سيما المتفق عليها كالفراش والإقرار والبينة؛ لأن هذه الطرق أقوى في تقدير الشرع، فلا يلجأ إلى غيرها كالبصمة الوراثية والقيافة إلا عند التنازع في الإثبات، وعدم الدليل الأقوى، أو عند تعارض الأدلة.

أما ما لم يتفق عليه من الوسائل والطرق فلا بأس من تقديمها عليه، ويكون تقديمها على القافة من باب قياس الأولى، وتقديمها على القرعة من باب الحكم بالمؤكد على ما هو مظنون.

رابعاً: ألا تخالف تحاليل البصمة الوراثية حكماً عقلياً معتبراً في الشريعة؛ فلا بد أن توافق نتائج البصمة الوراثية العقل والمنطق، فلا يمكن أن تثبت البصمة الوراثية نسب شخص لآخر لا يولد لمثله؛ لصغر سنه، أو لكونه مقطوع الذكر والأنثيين، كما لا يمكن أن تثبت أبوة من عمره ثلاثون عاماً لمن عمره خمس وثلاثون؛ لأن مثل هذا محال عقلاً.

خامساً: أن تتخذ الاحتياطات المطلوبة لضمان الوصول إلى نتائج صحيحة، وهذا الضابط في الواقع يرجع إلى الشروط الفنية والمعملية، ولعل من أبرز تلك الشروط ما يأتي:

  1. أن تكون المختبرات الخاصة بفحص البصمة الوراثية تابعة للدولة، أو تشرف عليها إشرافاً مباشراً. مع توفر جميع الضوابط العلمية والمعملية المعتبرة محلياً وعالمياً في هذا المجال.
  2. عمل التحاليل الخاصة بالبصمة الوراثية بطرق متعددة، وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية ضماناً لصحة النتائج وتحقيق أكبر قدر من اليقينية في إجراء التحاليل الخاصة بها، والتأكد من سلامة الأجهزة ودراية الفنيين.
  3. توثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية، بدءاً من نقل العينات، إلى ظهور النتائج النهائية؛ حرصاً على سلامة تلك العينات، وضماناً لصحة نتائجها، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة.
  4. تعدد اختبار العينات من خبراء مختلفين وفي معامل مختلفة.
  5. أن يقوم بالفحوصات نخبة من ذوي الكفاءة العالية من أهل الاختصاص، ولا يوكل للمتدربين أو الموظفين والعمال في المعمل.
المراجع

• القرائن المادية وأثرها في الإثبات (رسالة دكتوراه ـ كلية الشريعة ـ جامعة الإمام) د. زيد القرون (167ـ 209).
• تطبيقات تقنية البصمة الوراثية في التحقيق والطب الشرعي للجندي والحصيني ص50، 114-134.
• تقنيات البصمة الوراثية في قضايا النسب لعبد القادر الخياط ص1487.
• البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لوهبة الزحيلي ص57.
• ثبت أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني 2/1050.
• أدلة الإثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة للدكتور جميل الصغير ص59.
• البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية لسعد الدين هلالي ص25.
• البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية لخليفة الكعبي ص 8.
• الأدلة الجنائية للمعايطة والمقذلي ص 108.
• البصمة الوراثية وحكم استخدامها في مجال الطب الشرعي والنسب للميمان ص592.
• تحقيق شخصية الإنسان بالطرق غير التقليدية للدكتور حسين إبراهيم ص164 وما بعدها.
• توظيف العلوم الجنائية لخدمة العدالة لبدر الخليفة ص178 وما بعدها.
• الكشف الجيني عن المجرم لعبد الله غانم.
• الطب الشرعي في التحقيقات الجنائية للجندي ص220.
• الطب الشرعي مبادئ وحقائق لحسين شحرورص262.
• التحقيقات الجنائية لإبراهيم الجندي ص226ـ229.
• البصمة الوراثية كدليل فني أمام المحاكم للجندي والحصيني ص29ـ43.
• البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها في النسب والجناية لعمر السبيل ص14.
• التحقيق الجنائي المتكامل لمحمد البشري ص255ـ262.
• التحليل البيولوجي للجينات البشرية وحجيته في الإثبات لمحمد النجيمي ص73.
• إثبات النسب ونفيه بالبصمة الوراثية وتطبيقاتها القضائية لعبد العزيز آل جابرص138.
• استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب للهادي الشبيلي ص19.
• البصمة الوراثية وحجيتها لعبد الرشيد أمين قاسم، مجلة العدل، العدد 23.
• القضاء بالقرائن المعاصرة لعبد الله العجلان ص285.
• البصمة الوراثية من منظور الفقه الإسلامي للقره داغي ص27 و30.
• مناقشات جلسة المجمع الفقهي عن البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب إثباتاً ونفياً في دورته (15) المنعقدة في شهر رجب 1419 هـ
• إثبات النسب بالبصمة الوراثية، للدكتور/ محمد الأشقر. ضمن ثبت أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية. الكويت: المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421هـ -2000 م
• إثبات النسب بالبصمة الوراثية، للشيخ/ محمد المختار السلامي، ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني رؤية إسلامية– الكويت: المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421هـ -2000 م.
• البصمة الجينية وأثرها وأثرها في إثبات النسب، للدكتور: حسن الشاذلي، ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشرى والعلاج الجيني – رؤية إسلامية. الكويت: المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421 هـ -2000 م
• البصمة الوراثية ومدي حجيتها في إثبات البنوة، للدكتور/ سفيان العسولي، ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية. الكويت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421 هـ – 2000 م.
• البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب إثباتاً أو نفياً، للدكتور/ نجم عبد الله عبد الواحد بحث مقدم للمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته (15) عام 1419 هـ.
• بعض النظرات الفقهية في البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب، للدكتور/ محمد عابد باخصمة. بحث مقدم للمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته (15)عام 1419 هـ.
• بحث إثبات النسب بالبصمة الوراثية ص405 ضمن البحوث المقدمة للندوة الفقهية الحادية عشرة من أعمال المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية سنة1413هـ.
• البصمة الوراثية في الفقه الإسلامي، للدكتور مصلح النجار، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 65.
• بصمة الجينات، للدكتور عارف علي، مجلة الحكمة، العدد 26.
• مجلة المجمع الفقهي السادس عشر ـ ص67.

مسائل ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى